المقطع الأخير من سورة البقرة
المقطع الأخير من سورة البقرة
) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ
بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا
إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا
تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا
إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا
تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا
وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) ( .
بقيَ
في هذه الآية مسألة يسيرة وهي قول الله تبارك وتعالى في خاتمتها : ) فَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( لماذا خُتمت الآية
بالقدرة ولم تُختم بالمغفرة والرحمة ؟!
غالباً
عندما تأتي مثل هذه الآيات يقول والله ماذا ؟! ) فَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ والله غفور رحيم ( لماذا خُتمت بالقدرة ولم
تُختم بالرحمة أو بالعقوبة التي أُشير إليها في هذه الآية ؟!
والجواب : أنّ المحاسبة إنّما تكون بعد البعث , أيّ بعد بعث الناس ,
لا يُحاسَب الناس إلا بعد موتهم ثم بعثهم , والبعث يدلّ على القدرة , وهذا هو
الأقرب .
وهناك تخريجٌ آخر وهو أن نقول لو أنّ
الآية :
*
خُتمت بالرحمة وفيها التعذيب لم يكن هناك تناسب .
*
ولو خُتمت بما يقتضي التعذيب وفيها مغفرة لم يكن هناك
تناسب .
والقدرة تناسب كِلا الأمرين ,
فالمغفرة والتعذيب لا يكون إلا عن قدرة .
ثم
قال الله تبارك وتعالى : ) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا
أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ( ورد في هذه الآيتين جملة من
الفضائل وهي معروفة بحمد الله تبارك وتعالى , منها :
*
قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح « من
قرأ بالآيتين من آخر سُورة البقرة في ليلةٍ كفتاه »
ولم يذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم المَكفِيّ فدلّ على العموم .
*
وقال أبو بكر النَّقاش معنى كفتاه أيّ كفتاه عن قيام الليل , والأَولى إبقائها على عمومها
.
وجاء
في الحديث الصحيح كذلك قال : « أُعطي النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثاً : الصلوات الخمس ،
وأُعطيَ خواتيم سورة البقرة – التي هي هاتان الآيتين – وغُفِرَ لمن لم يُشرِك
بالله من أمته شيئا المُقحمات »
فقوله سبحانه وتعالى ) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا
أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ( إخبارٌ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك , وقوله : ) وَالْمُؤْمِنُونَ ( عطفٌ على الرَّسول صلى الله عليه وسلم .
ثم
أخبر عن الجميع بقوله : ) كُلٌّ ( أيّ الرسول وأتباعه وهم المؤمنون ) كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ( فالمُؤمنون يؤمنون بأنّ الله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره ولا
ربَّ سواه , ويصدّقون بجميع الأنبياء والرسل , والكتب المُنزّلة من السَّماء على
عباد الله المرسلين , لا يُفرّقون بين أحدٍ منهم فيؤمنون ببعضهم ، ويكفرون ببعضهم
بل يؤمنون بالكل الرَّسول المُرسل والكتاب المنزل .
وهنا
فائدة يا إخواني قال الله عز وجل ) لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ( هنا يُسمِّيه أهل العلم إظهارٌ في
موضع الإضمار , السياق يقتضي أن يقول : ) كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ ( " منهم " , فالتفتَ هنا
من الغَيبةِ إلى التَّكلم لفائدة الانتباه , أيّ أنَّ التفريق بينهم يُنافي مقتضى
الإيمان بهم .
) وَقَالُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا ( أيّ سمعنا قولك يا ربّنا وفهمناه وقُمنا به ، وامتثلنا العمل
بمقتضاه ) غُفْرَانَكَ ( سؤال للمغفرة والرحمة ) غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ( روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قول الله تبارك وتعالى : ) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا
أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ( إلى قوله : ) غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ( قال : قد غفرتُ لكم وهذا وإن كان موقوفاً على ابن عباس فإنّ له
حكم الرَّفع إذ لا مجال للرأي فيه
.
وجاء
في الحديث الآخر المرفوع أنَّ النبيّ صلى الله عليه
وسلم قال: قد فعلت - نسأل الله من فضله - إذا
قال العبد وهو يقرأها ) غُفْرَانَكَ رَبَّنَا
وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( قال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الله عز وجل : قد فعلت .
) وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( أي المرجع والمآب يوم يقوم الحساب , ثم قال الله عز وجل : ) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ( الوُسع هو الطاقة , أي لا يكلّف أحداً فوق طاقته وهذا من لُطف
الله تعالى بخلقه ، ورأفته بهم وإحسانه إليهم ) لَهَا مَا كَسَبَتْ ( من خير ) وَعَلَيْهَا مَا
اكْتَسَبَتْ ( من شر , وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التَّكليف , أما التي لا
تدخل تحت التكليف فالله تبارك وتعالى لا يكلّفنا , ولذلك
من قواعد أهل العلم التكليف بما يُطاق , ولذلك قال الله عزّ وجل في
الكفر ) إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ( من عُرِض على السَّيف فله أن يتكلم بالكفر لينجوَ منه لأنَّ هذا
تكليفٌ بما لا يطاق ، لكن بشرط أن يكون القلب مطمئنّ
فإنّ الذي أٌجيز للإنسان هو الظاهر أمّا الباطن فيبقى لله تبارك وتعالى .
ثم
أرشد الله عباده ) رَبَّنَا لَا
تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا ( أي إن تركنا فرضاً على جهة النسيان أو فعلنا حراماً كذلك ) أَوْ أَخْطَأْنَا ( أي الصَّواب في العمل جهلاً مِنّا بوجهه الشرعي .
قال السعدي رحمه الله :
( الفرق بين النسيان والخطأ أنّ النسيان ذهول القلب
عمّا أُمر به فيتركه نسياناً , والخطأ أن يقصد شيئاً يجوز له قصده ثم يقع فعله على
ما لا يجوز له فعله )
.
ثم
قال الله عز وجل : ) رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ
عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ( الإصر هو الشيء الثقيل
الشاقّ , أيّ لا تكلّفنا من الأعمال الشاقّة وإن
أطقناها , وهذه مرحلة دون المرحلة الأولى وهي التكليف بما لا يُطاق , ربنا ولا
تَحمِلنا حتى على الشّيء الشاقّ , كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال ،
والآصار التي كانت عليهم , ولذلك من رحمة الله بهذه الأمة أنَّ الله وضع عنهم
الأصرار , إذا تاب المُذنب في بني إسرائيل ما الذي يلزمه ؟! القتل , وإذا جاء على بدنه أو ثوبه نجاسة ففيها القَطع ( القَرص ) , لكنّ الله وضع برحمته عن هذه الأمة
الآصار كما قال الله في الحديث القدسي : قد فعلت . لمّا قال المؤمنون : ) رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ
عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ( قال الله تبارك وتعالى : قد فعلت .
وهذا
من رحمة الله تعالى بنا ) رَبَّنَا وَلَا
تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ( من التَّكليف والمصائب والبلاء لا تبتلينا بما لا قِبلَ لنا به ) وَاعْفُ عَنَّا ( أي فيما بيننا وبينك ممّا تعلمه من تقصيرنا وزللنا ) وَاغْفِرْ لَنَا ( أي فيما بيننا وبين عبادك فلا تُظهرهم على مساوئنا وأعمالنا القبيحة
) وَارْحَمْنَا ( أي فيما يُستقبَل , فلا توقعنا في ذنب آخر , فدعوا أنّ الله يغفر
لهم ما سلف ، وأن يرحمهم فلا يقعوا في الذنب فيما يُستقبل .
ولذلك يُقال إنّ المذنب يحتاج إلى ثلاثة
أشياء :
•
أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه .
•
وأن يستره عن عباده فلا يفضحه بينهم .
•
وأن يَعصِمَه فلا يُوقعه في ذنب آخر .
هذا
المُذنب يحتاج إلى هذه الثلاثة الأشياء أنّ الله يعفو عنه ، وأن يَستره وأن يعصمه
من الوُقوع في الذنب مرةً أخرى , وقد جاء في الحديث
القدسي أنّ الله تبارك وتعالى قال : قد فعلت .
) أَنْتَ مَوْلَانَا ( أنت وليّنا وناصرنا وعليك توكلنا وأنت المستعان ولا حول ولا قوة
لنا إلا بك ) فَانْصُرْنَا عَلَى
الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( أيّ الذين جحدوا دينك وأنكروا وحدانيتك ورسالة نبيك وعبدوا غيرك .
قال السِّعدي : ( العفو والمغفرة يحصل بهما دفع
المَكاره والشُّرور ، عندما قال الله ) وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ
لَنَا ( ثم قال الله : ) وَارْحَمْنَا ( والرحمة يحصُل بها صَلاح الأمور , فإذا دعا الإنسان بهذا الشَّيء
فإنه قد دعا بجوامع الكلم )
.
ولذلك حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على قراءتها كل ليلة ,
فاستشعروا أيّها الإخوة حينما تقرؤون هذه الآية هذه المعاني العظيمة التي اشتملت
عليها هاتان الآيتان .
قال الزَّجاج رحمه الله في خاتمة تفسيره
لهذه السورة
( لمّا ذكر الله ما تشتمل عليه هذه السُّورة من القَصص والأحكام ،
ختمها بتصديق نبيّه والمُؤمنين )
- يعني خَاتمة
السُّورة مناسبة لمضمونها - وبهذا نكون بحمد الله تبارك وتعالى قد انتهينا من
تفسير سورة البقرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق