تفسير سوره الفاتحه الجزء الأول

تفسير سوره الفاتحه الجزء الأول

 نتحدث أولاً عمّا يُفتتح به قراءة القرآن من الاستعاذة والبسملة

, فقوله : ( أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ الشَيْطَانِ الرَّجِيمْ ) هذه الكلمة يُفتتح بها كتاب الله تعالى كل قارئ , وليست آيةً من كتاب الله عزّ وجل, وإنمّا الغرض منها هو التجرّد من حظّ الشيطان وقطع السبيل عليه إلى أن ينال من قلبك حين تبتدئ كتاب الله عز وجل وقولك ( أَعُوذُ ) بمعنى: ألتجئ من الشيطان الرجيم , والشيطان هو كل عاتٍ متمّردٍ من الجن والإنس
وقولك ( أَعُوذُ بِاللهِ) اعتراف منك  بعجزك والتجاء منك وإيمان ٌبربّك سبحانه وتعالى القادر أن يدفع عنك هذا الشيطان وشرّه ووسوسته
والعلاقة بين الاستعاذة والبسملة هناك علاقة لطيفة : وهي أنك تبتعد من الشيطان الرجيم الذي يريد أن يصدّك عن ذكر الله , لتصل إلى الرحمن الرحيم الذي يريد لك الخير  والنجاة والتوفيق في الآخرة , فإنّك في الاستعاذة تبتعد عن هذا الشيطان , وفي البسملة تقترب من ربّك الرحمن الرحيم .
أمّا البسملة  وهي آية من كتاب الله تعالى أُنزلت على القول الصحيح للفصل بين السور في خلاف طويل لا يسع المقام لتفصيله , فقيل : أنّها آية من الفاتحة , وقيل : أنّها آية أُنزلت للفصل بين السور , وهي آية من سورة النمل في قصة النمل ,
هذه البسملة  تضمنّت ثلاثة أسماء , هذه الأسماء هي الله والرحمن والرحيم , هذه الأسماء هي أصل الأسماء كما قال ابن القيم وأعظمها وأجملها  , واسم الله عز وجل لفظ الجلالة ( اللهِ ) هو أعظم الأسماء وإليها مرجع الأسماء كلها , فهو مشتمل عليها جميعاً , أمّا ( الرحمن والرحيم ) فلشمول معنى الرحمة التي عليها مدار الدارين 
 فإنّك تقول: أستعين بالله تعالى باسمه الرحمن الرحيم , وهذا لاشكّ دافع وداعٍ بإذن الله تعالى إلى عون الله لك وتوفيقك , وقولك : ( ِبسْمِ اللّهِ ) بمعنى باسم الله أقرأ 
أمّا سورتنا العظيمة سورة الفاتحة سورة عظيمة , وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول واسمع ما يقول, يقول : ( لو شئت لأوقرت لكم - يعني حمّلت لكم - سبعين بعيراً من سورة الفاتحة ) الله أكبر !
يقول لو شئت لكتبتُ صحفاً ما يحملها إلاً سبعين بعيراً من تفسير وبيان سورة الفاتحة  ,  وأنّ المسلم يقرؤُها وجوباً وفرضاً في كل يوم سبعة عشر مرة , وما ذلك إلاّ لعظمها , بل إنّه يقرؤُها في الفريضة والنفل أكثر من ثلاثين مرة ما السرّ في هذا ؟! وما السرّ في إعادتها ؟! ثلاثون مرة يقرؤها الإنسان في كل يوم ولا يشعر ولا يملّ !
إنّما ذلك لأمرٍ عظيم وغرضٍ تحمله وتتضمنه هذه السورة علّنا أن نُلمّح إلماحةً إلى بعضِ فضائلها 
 فقد جاء في مسند الإمام أحمد , عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّه قرأ قال النبي صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بِيَدِه مَا أُنْزِلَ في التَّوْرَاةِ وَلاَ في الإِنْجِيلِ وَلاَ في الزَّبُورِ وَلاَ في الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا إِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الذي أُوتيته » أي أنّها اشتملت على القرآن كله , وهذا دليلٌ كافٍ في فضلها.
وأخرج البخاري عن أبي سعيد بن المعلّى , وهو حديث عظيم , قَالَ : « كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُجِبْه - لأنّه كان في الصلاة - فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي , قَالَ : أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ : ) اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ( ثُمَّ قَالَ لِي - اسمع ما يقول - لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِي أَعْظَمُ سُّوَرِة فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ » فلم يُخبره النبي صلى الله عليه وسلم حتى أراد أن يخرج فأخذ بيده , النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن ينظر مدى اهتمام سعيد بن معلّى اهتمامه وحرصه على هذه الفائدة العظيمة وهذه الهدية الكبيرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم , هل هو مهتم أم لا ؟! « فلمّا أراد أن يخرج وقف سعيد بن المعلّى رضي الله تعالى عن أبي سعيد , فقال يا رسول الله إنك قلت : « لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هي أَعْظَمُ سُورَةٍ في الْقُرْآنِ » قَالَ : نعم ) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( هِي السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ » والحديث في البخاري .
لماذا كانت أعظم سورة في القرآن ؟
لأنّها تضمّنت جميع معاني القرآن ومقاصده , ولهذا سُميّت بأم القرآن , وأم الكتاب , والأساس , والوافية , والكافية , كل ذلك دليلٌ على أنّها تضمّنت أصول القرآن كله  , اسمع إلى ما ذكر ابن القيم في كلامٍ نفيس قال : ( اعلم أنّ هذه السورة اشتملت على أُمّهات المطالب العالية أتمّ اشتمال , وتضمّنتها أكمل تضمن , فاشتملت على التعريف بالمعبود سبحانه وتعالى بثلاثة أسماء , وهي مرجع الأسماء الحسنى والصفات العلى
هنا سؤال مهمّ  ومن وعاه جيداً سيجد في هذه الفاتحة معنىً لا يجده وطعماً لا يجده في غير تأمُلِه بغير هذا المعنى
ما هو مقصد السورة ؟ مقصد سورة الفاتحة ؟
وقبل أن أبيّن هذه المقصد أُريد أن أُلمِح إلى أهمية علم من علوم القرآن وهو : ( مقاصد السور ) لكل سورة بالتأمّل الثاقب محورٌ أساس تدور عليه 
تأمّلوا سورة الإخلاص , ما هو محورها ؟
محورها هو اسمها ( الإخلاص ) هل تجدون هذا الاسم موجود في ألفاظها ؟
هل الإخلاص موجود في ألفاظ سورة الإخلاص ؟
لا ، إذاً لماذا سميّت بالإخلاص ؟
لأنّها تُحقق الإخلاص فكلّ كلمة وليست كل آية , كل كلمة من هذه السورة لها دلالة في الإخلاص !
من حقّق هذه السورة تحقيقاً صحيحاً حقّق الإخلاص لله عزّ وجل , لأنّك إذا قلت : ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (  فإنك توحّد الله عزّ وجل في كل شيء من شؤون الحياة, ولذلك قال: ) أَحَدٌ ( ولم يقل : ( واحد ) ! وحين تقول: ) اللَّهُ الصَّمَدُ ( وهو الذي بلغ كمال السؤْدد سبحانه وتعالى في ذاته وأسمائه وصفاته , وهو الذي إليه الملجأ لجميع الخلائق في جميع شؤونهم وحوائجهم , فإنّك بذلك قد حققّت الإخلاص حقًّا , ثم إذا قلت : ) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ( تبيّن لك أنّ الله عزّ وجل مستغنٍ عن كل أحد فليس له ولد وليس له والد وليس له مثيل , فحققّت بذلك في قلبك كمال الله عز وجل معرفةً واعتقادا .
نرجع إلى مقصد سورة الفاتحة ,
هذه السورة العظيمة لابدّ أن نُحقِق فيها معنىً عظيماً  وهو تحقيق كمال العبودية لله عزّ وجل , هذا مقصدها باختصار " بمعنى أنّك في كل صلاة تقرأ هذه السورة وفي كل ركعة تُجدِد العبودية لربّك بل تزداد عبوديتك لربّك بحسب معرفتك لما تضمّنته هذه السورة
ولعلّنا من خلال التأمّل السريع نقف بعض الوقفات التي تبيّن هذا الغرض وتؤكدّه :
أولاً : كلنا يعلم الحديث الذي في الصحيح الذي أخرجه البخاري في قول الله عز وجل في الحديث القدسي : « قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين , فنصفها لي ونصفها لعبدي » هذه الصلاة يعني الفاتحة , وإنمّا سُمّيت صلاة لأنّها ركنٌ في الصلاة , فالثلاثة الآيات الأولى فيها بيان استحقاق الله عزّ وجل للكمال المطلق , والثلاثة آيات الأخيرة والآية الوسطى وهي ركيزتها وعمدتها هي بين الله وبين عبـده , ك والثلاثة الآيات الأخيرة هي في حقّ العبد في سؤاله ربه عزّ وجل أن يهديه الصراط المستقيم للنجاة في الدنيا والآخرة , يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : ( من تحقق بمعاني الفاتحة علماً ومعرفةً وعملاً وحالاً فقد فاز من كماله بأوفر نصيب , وصارت عبوديته عبودية الخاصّة الذين ارتفعت درجتهم عن عوامّ المتعبدين )الله أكبر !
 فو الله حقّ علينا أن نُولي هذه السورة عنايةً كبرى في حياتنا وأن نستحضرها معنىً وعملا .
افتتح الله عزّ وجل بقوله : ) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (  الحمد هو وصف المعبود سبحانه بصفات الكمال,في ذاته وأسمائه وصفاته , لو استحضرت هذا المعنى والله لحققّت في قلبك معرفة بالله حقيقة كبيرة وعبدت الله حقّ العبودية عبودية صحيحة , ولذلك قال الله تعالى إذا قال العبد : ) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( قال : حمدني عبدي , والحمد هو الثناء بالكمال ,  فناسب أن يفتتح الله كتابه الذي هو رسالته للخلق بها , ليكون أول ما يتلقّاه العباد من كلام ربّهم  فيستقرّ ذلك في نفوسهم وفي أحوالهم ,  يقول بن القيم رحمه الله في قوله : ) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ( نجد تحت هذه الكلمة إثبات كل كمال للرب فعلاً ووصفاً واسماً وتنزيهه سبحانه عن كل سوء وعيب فعلاً ووصفاً واسماً وبذلك كمل التوحيد ) .
قال الله تعالى : ) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ولم يقل : أحمد ربي أو حمداً لله لماذا ؟
ما الفرق بين قولنا : ) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( وبين قولنا : حمداً لله رب العالمين ؟
الفرق ظاهر فإنّ قولك : ) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( تُفيد الاستغراق فإنّ الألف واللام  للاستغراق , ولله المثل الأعلى حين تقول : الرجل أو تقول رجل , أيّهما أكمل في المعنى ؟ الرجل , لأنّك حين تقول الرجل يعني قد كمُلت معاني الرجولة فيه , فقلت هذا الرجل قد كمُلت فيه معاني الرجولة , أمّا حين تقول: هذا رجل, يعني فيه بعض صفات الرجولة , ولله المثل الأعلى في ذاته وأسمائه وصفاته , فإنّ قولك : ) الْحَمْدُ ( يعني جميع معاني الحمد لله رب العالمين , وأيضاً افتتاح الفاتحه بالحمد يُفيد أنّ الله تعالى محمود قبل أن يحمده الحامدون , فهؤلاء سواءً حمَدوا أم لم يحمدوا فهو محمود سبحانه منذ الأزل إلى الأبد سبحانه وتعالى , ما أعظم ذلك أيّها الأحبّة ! وما أعظم استحضاره !
قولك : ) رَبِّ الْعَالَمِينَ ( تخصيص هذا الوصف ( الرب ) وافتتاح الصفات به قبل الرحمن قبل الملك , لماذا ؟
لأنّ الربّ أعظم المقامات أثراً وتعلقاً بمصلحة العباد والإحسان إليهم هو معنى الرب , لأنّه يدخل فيه معنى السيد المربّي سبحانه وتعالى , ويدخل فيه معاني النفع والضر والإحسان وغير ذلك , فخصّه سبحانه وقدّمه ليكون أول ما يُشنّف آذانهم فيدعوهم إلى سرعة اللجوء والاستجابة إليه سبحانه وتعالى , ويكون أقوى لتحريك قلوبهم وعطفهم إلى ربهم سبحانه وتعالى , وفي تقديمه أيضاً دليلٌ على أنّ رحمة الله سبحانه وتعالى سبقت غضبه , فلم يُقدّم ملك على الرب ! لو قدّم لو قال : ( الْحَمْدُ للّه مالك يوم الدينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) لكان غضبه قد سبقت رحمته , وله الفضل والمنّة سبحانه .
قول الله عزّ وجل :  ) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (
لماذا قال : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ولم يقل : ( رب الناس ) ؟  ولم يقل ربّ الدنيا والآخرة ؟
ليُفيد كمال الله عز وجل فإنّه ربٌ للعالمين جميعاً إنساً وجنّاً وحيوانات , والعالمون كُثر لا يُعدّون , ففي البحر عوالم لا يحصيها إلا الله , وفي الأرض عوالم لا يحصيها إلا الله , وفي السماء عوالم لا يحصيهم إلا الله عزّ وجل , فهذا يُفيد كمال ربوبيته سبحانه وتعالى ,
 قول الله عز وجل : ) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( هذه الآية في بيان كمال الثناء على الله عزّ وجل وصفاً وفعلاً, ولذلك قال الله تعالى فإذا قال : ) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( ماذا يقول الله ؟ قال : ( أثنى علي ّ عبدي ) 
  وجمع بين الاسمين أيّها الإخوة ) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( لأمور :
أولاً :هذه من دقائق ابن القيم رحمه الله تعالى : ( الرحمن دالٌّ على الصفة القائمة بالله , والرحيم دالٌ على تعلّق هذه الرحمة وأثرها على العباد )

 أيضاً أيّها الأحبّة هنا سر في هذه الفاتحة يُحقق قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - هي السبع المثاني
, ما معنى هي السبع المثاني ؟

اختلف المُفسّرون فيها , قيل : هي تُثنّى في كل ركعة , والصحيح أنّ معانيها فيها مثاني , ففيها الشيء ومقابله ,أنّ الله قال : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي , فهذا معنى مثاني , وتصورّوا قوله : ) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) ( ترغيب وترهيب , وتصورّوا قوله : ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) ( فهذا حقّ الله وحق العبد , ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ ( لله ) وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( للعبد , وتصورّوا قوله : ) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ( فهذه الوجوه المثاني , ولو أنّنا تأمّلنا أكثر لوجدنا وجوهاً أكثر من ذلك في تحقيق هذه المثاني , فهي السورة التي ذُكر فيها المعنى ومقابلها .
ثم قال الله تعالى : ) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ( هذه الآية تُفيد أنّ الله سبحانه وتعالى له الملك وحده يوم القيامة , يوم الجزاء على الأعمال , في قراءة المسلم لهذه الآيات في كل ركعة من صلواته تذكير له باليوم الآخر , وحثّ له على الاستعداد للعمل الصالح والكفّ عن المعاصي والسيئات , وأنّه لا سبيل لك إلا الله – عز وجل - : ) لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (  وهنا بعض البصائر في هذه الآية :
أولاً : غرض هذه الآية هو بيان كماله سبحانه وتعالى مجداً وسلطاناً وقدرةً وتصرفاً للدلالة على كماله المطلق سبحانه وتعالى , ولهذا قال في الحديث : « فإذا قال العبد ) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ( قال الله تعالى : مجّدني عبدي » أي : عظّمني , فإنّك تُعظِمه في ملكه سبحانه وتعالى وقدرته وتصرفِه سبحانه وتعالى , وذكر وصف الملك بعد الربوبية والرحمة مناسبٌ كما ذكرت لكم هو من باب المثاني , فإنّ الربوبية والرحمة دالّة على كمال لطفه ورعايته وإصلاحه للخلق , وصفة الملك دالّة على كمال تصرفه وقدرته وأمره ونهيه سبحانه وتعالى , 
وأيضاً فإنّ صفة الربوبية والرحمة داعية لماذا ؟
داعية للرجاء والترغيب والتشويق للعبد , فأتبعها سبحانه وتعالى بصفة الملك الداعية إلى الترغيب والخوف , ليجتمع في قلب العبد الخوف والرجاء , وهذه كمال العبودية إذا اجتمع في قلبك الخوف والرجاء وبينهم المحبة فذلك هي كمال العبودية .
هنا سؤال وهو ما هو وجه تخصيص يوم الدين ؟! لماذا قال : ) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ( ولم يقل مالك الدنيا والآخرة ؟ مالك السماوات والأرض ؟ لماذا خصّ هنا يوم الدين مع أنّ السورة في بيان كمال الله المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته ,
في ذلك اليوم يوم القيامة لا يكون مُلك إلا لله عزّ وجل , قال الله عز وجل : ) لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ( في يوم القيامة يوم يجمع الخلائق كلهم من أولهم إلى آخرهم انسهم وجنّهم وجميع الخلق مجموعون في ذلك اليوم , فليس لأحدٍ مُلك , ليس لأحدٍ في ذلك اليوم قدرة ولا نفع ولا ضر إلاّ بإذن الله , فحينها يقول الله تعالى : ) لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ( فيُجيب الله تعالى بنفسه : ) لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ( فانظروا وتأمّلوا قوله : ) الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ( فحين تمّثل المُلك الكامل لله عز وجل في ذلك اليوم , جاء في هذه السورة التي تُحقق الكمال لله تعالى تخصيص يوم الدين , أمّا في الدنيا فإنّ الله جعل للخلق مُلك تحت مُلكه سبحانه وتعالى 
ولماذا قال : ) يَوْمِ الدِّينِ ( ولم يقل يوم القيامة ؟ أو يوم الجزاء ؟ لماذا خصّص يوم الدين ؟
للإشارة إلى أنّ ذلك اليوم هو يوم الجزاء على الدين , وما هو الدين ؟! هو دينه سبحانه وتعالى , أمّا غيره من الأديان فليس لها عند الله نصيب , فكأنّ الله تعالى سبحانه في هذه الآية يقول : في ذلك اليوم هو الجزاء لديني , من أراد أن يكون من أهل ديني فإنّ ذلك اليوم هو جزاؤهم على الدين , ثم هنا قراءتان في قوله : ) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ( قراءتان صحيحتان متواترتان عن النبي صلى الله عليه وسلم , وهنا وقفة مع القراءات وهي أنّ القراءات فيها سرٌ من أسرار القرآن , تُفيد تعدد المعاني , وكما قال علي رضي الله عنه : ( القرآن حمّال ذو وجوه ) بمعنى أنّه يحتمل معاني كثيرة , فالكلمة الواحدة قد تستخرج منها معانٍ كثيرة , وهذا معنى قول الله عز وجل : ) مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (  فهذه الكلمات المعدودة تجمع معاني لا منتهى لها , في كل زمان نجد من المعاني مالا يمكن أن يكون في زمان قبل , في كل عصر يُناسب هذا القرآن , حَلّ مشكلاته , في واقعيته , وبلغته , وبأحواله , والله تعالى أعلم وأعظم في أن يجعل هذا القرآن هداية للناس من أولهم إلى آخرهم , فقولنا : (مالك) و(ملك) هنا قراءات , والقراءات تُفيد تعدد المعاني ,
فما هي المعاني تحت كلمة (ملك) وما هي المعاني تحت كلمة (مالك) ؟!
المعاني تحت كلمة (ملك) تُفيد كمال القوة والسلطة والجلال والعظمة ، الملك هكذا يفيد الجلال والملك والعظمة ، و(مالك) تُفيد التصرّف التامّ والنفع التامّ والضرّ التامّ , فله سبحانه وتعالى التصرف التامّ في كل شيء , فقد يكون (ملك) ولا يكون (مالك) في المخلوقين , ولله المثل الأعلى أليس كذلك ؟
قد يكون في الدول مَلِك لكنّه لا يتصرف , كـ " ملكة بريطانيا " ليس لها من الأمر شيء , أمّا قولنا : ) مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ( و ) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ( فهي تُحقق لله تعالى المعنيين الجميلين , الجلال والعظمة والسلطان , وتُحقق معنى النفوذ والتصرُف التام سبحانه وتعالى له .
ثم نأتي إلى محطّ السورة وقاعدتها وأساسها , هذه الآية التي هي أعظم آية في كتاب الله عزّ وجل من حيث معناها , وإلاّ فأعظم آية في كتاب الله آية الكرسي لكن هذه الآية في سورة الفاتحة : ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( في مضمونها قد شملت القرآن كله , هي عمود السورة , قول الله عز وجل : )يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - : ( هاتان الكلمتان تجمعان معاني الكتب المنزلة من السماء الله أكبر ! ليس فقط القرآن , وقد ذكر في أثر آخر : ( أنّ الله جمع الكتب السماوية كلها في أربعة كتب , وجمع الأربعة كتب في كتاب واحد وهو القرآن, وجمع القرآن في سورة واحدة هي الفاتحة , وجمع الفاتحة في آية واحدة هي ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( ) وقال ابن كثير رحمه الله تعالى : ( والدين يرجع كله إلى هذين المعنيين ويقول بعض السلف : ( الفاتحة سرّ القرآن وسرّها - أي سرّ الفاتحة - هذه الكلمة : ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( ) ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال الله العون على مرضاته ثم رأيته في الفاتحة في قوله : ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( ) .

أولاً : ما مناسبة هذه الآية لما قبلها ؟
مناسبتها ظاهرة هي أنّه لما ذَكر سبحانه وتعالى اتصّافه بصفات الجلال والكمال الدالّة على استحقاقه واختصاصه بالعبودية , كان ذلك موجباً للعبد إلى أن يعترف لله عزّ وجل بهذه العبودية ,فحينما يقول  ) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ( هنا يقف معظماً لله عز وجل ، مستشعراً كمال ربّه سبحانه وتعالى في ذاته وصفاته , مستحضراً أنّه لا سبيل له للعبد إلا الله , حينها يتجه إلى ربه فيقول : ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( وتعلم علم اليقين أن الله تعالى له الكمال المطلق وبيده الخير كله وعنده خزائن السماوات والأرض فحينها ليس لك سبيل إن كنت عبداً صادقاً مؤمناً أن تتوجه لغير ربك فحينها تقول : ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( ( هذا والله معنى العبودية 
لماذا قال ( إياك نعبد ) ولم يقل إياه نعبد ؟
الحديث هنا قال : ) الْحَمْدُ لِلَّهِ ( لم يقل ( الحمد لك ) فالحديث هنا عن الغائب لماذا جاء الحديث المخاطب هنا قوله : ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ ( مباشرة فالتفت من الغيبة إلى الخطاب وهذا التفات بديع ، وهو أدخل في استجلاب النفوس واستمالة القلوب وإيقاظ الأسماع كما أن فيه مناسبة لما قبله وهو أنه لما أخبر عن نفسه بأجمع الصفات وأجملها وأجلها تجلى للقارئ والسامع كمال ربه المطلق فاستدعى ذلك إلى أن يتوجه إليه مباشرة فيقول ) إِيَّاكَ ( نعبد فكأنه ترقى وهذا من كلام ابن القيم يقول : كأنه ترقى من كمال البرهان والدليل إلى كمال الإقرار والاعتراف ، ومن رتبة الإيمان والتصديق إلى رتبة الإحسان ،وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
وقولك : ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ ( لماذا قال ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ ( ولم يقل إياك أعبد ؟
 لماذا جمع هنا فقال إياك نعبد ولم يقل إياك أعبد ؟
الجمع في ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ (  دال على معانٍ جميلة ،منها أنه مناسب لما أخبر عن شمول صفاته وإحاطته بالكمال وأنه رب العالمين جميعاً معنى عظيم !
حينما تقول : ) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( و ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ ( فإنك تعترف بأن الخلق كله عباد لله وأنه رب العالمين جميعاً ليس ربك أنت فقط   وهذا معنى قول إبراهيم عليه السلام ) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ( ما قال أسلمت لربي لاحظ  ماذا قال : ) أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( الله أكبر !!
اعتراف بأن الله رب العالمين جميعاً وهذا أكمل في العبودية من قولك ( الحمد لله ربي ) أو قولك ( إياك أعبد ) فالحظ هذا وتدبره وفقك الله .
ثم أيضاً فإن قولك ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ ( كأنك بضعفك وتقصيرك ومعصيتك تريد أن تدخل نفسك مع عباد الله الصالحين فكأنك تقول يا رب أنا لوحدي لا أستطيع تحقيق كمال عبوديتك ،  فحينها تدخل بعبوديتك مع عبودية عباد الله الصالحين كلهم فتدخل مع الصالحين جميعاً في هذه العبودية لتحقق معهم الكمال ، وهنا أيضاً مسألة أخرى وهي الجمع بين العبودية والاستعانة
قولك إياك نعبد كافٍ في تحقيق العبودية فلماذا قال ( إياك نستعين أيضاً ) ؟
لأنه لا سبيل للعبد إلى تحقيق العبادة إلا بالله عز وجل وعونه هل يمكن لك أنت أيها العبد بقدرتك وضعفك وما يحفك من الصوارف الشيطان والنفس الأمارة أن تعبد الله حق العبادة ؟ لا والله
إذا لم يكن عون من الله للفتى *** فأول ما يجني عليه اجتهاده
هنا أيها الأخ الحبيب وأنت تعترف لله عز وجل بالعبودية يمكن أن يأتيك الشيطان فيبعث في نفسك الفخر وأنك تعبد الله وكثير من الناس لا يعبده هنا يُكسر هذا العُجْب بقولك إياك نستعين أي ليس لي سبيل لعبادتك إلا بك سبحانك وحدك لا شريك لك فهذا معنىً عظيمًا فتأملوه وتدبروه .
وقدم العبادة على الاستعانة لأن العبادة هي المقصودة والاستعانة وسيلة لها كما أن العبادة حقه تعالى والاستعانة حق للعبد من لله يعني العبادة حق لله من العبد أن يعبده والاستعانة حق للعبد من الله أن يعينه فكان ذلك جمعاً بين حق الله وحق العبد وهو معنى قوله السبع المثاني .
لسماع المحاضره من هنا
يتبع بإذن الله تعالي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق