تفسير الآيات من 282 - 284
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ
وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ
كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ
فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ
فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ
الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى
وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ
صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ
وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا
تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا
شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ
عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ
اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ
آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) ( .
بعد
ما ذكر الله عز وجل آيات الرِّبا ذكر بعدها آية الدَّين
وقد تقدّمت المناسبة في هذا الترتيب وآية الدَّين هذه أطول آية في القرآن , وتُسمّى آية الدين , وقد روى ابن جرير عن سعيد بن المسيب
أنّه بلغ أنّ أحدث القرآن بالعرش آية الدين , وقد تمَّ الجمع بين هذه الأقوال
الثلاثة بحمد الله تبارك وتعالى , وقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس انّه قال لمّا
نزلت آية الدَّين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إنّ أول من جحد آدم عليه السلام أنّ الله لمّا خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو
ذارئ إلى يوم القيامة فجعل يعرض ذريته عليه فرأى فيهم رجلاً يزهر , قال أي رب من
هذا ؟! قال : هو ابنك داود قال أي رب كم عمره ؟! قال : ستون عاماً , قال : ربي زد
في عمره , قال : لا إلا أن أزيده من عمرك , وكان عمر آدم ألف سنة , وهذا من
الغيبات التي أظهرها أنّ عمر آدم ألف سنة , فزاده أربعين عاماً , زاد من ؟! داود ,
وأُخذ من عمر آدم أربعين عاماً , فصار 960 عمر آدم , فكتب عليه بذلك كتاباً وأشهد
عليه الملائكة , فلمّا احتضر آدم وأتته الملائكة , قال : إنه قد بقي من عمري
أربعون سنة , فقيل : إنك قد وهبتها لابنك داود , قال : ما فعلت – نسي آدم عليه
السلام – قال : فأبرز الله عليه الكتاب وأشهد
عليه الملائكة .
ولذلك
الكتابة يا إخواني مهمة والاشهاد كما سيأتينا , والدَّين هو كل ما ثبت في الذمّة
من ثمن بيعٍ أو أجرةٍ أو صداق أو غير ذلك , كل ما ثبت في الذمّة يسمّى ديناً
) تَدَايَنْتُمْ ( قال الزجاج : يقال داينتَ الرجل إذا عامَلته , فأخذتَ منه بدينٍ وأعطيته , إذاً
المداينة هي المعاملة [1]
نادى الله تبارك وتعالى النَّاس كذلك بالإيمان كما ناداهم في الربا , فقال سبحانه
: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا ( يقول ابن مسعود رضي الله عنه : إذا سمعت ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا ( فأرعِ لها سمعك , فإمّا
خيرٌ تُؤمر به أو شرٌ تُنهى عنه .
وتتبّعوا
يا إخواني نداءات القرآن ولو كُتب فيها كتاباً لكان رائع من منطلق قول ابن مسعود
إمّا خيرٌ تُؤمر به أو شرٌ تُنهى عنه [2]
.
) إِذَا تَدَايَنْتُمْ
بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ( يعني إذا تداينتم بشيء مستقبل فاكتبوه , وهذا إرشاد من الله
لعباده ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها , فإنّ الناس ربّما يختلفون في وقت حلول
هذا الدين , وربما يختلفون في مقداره ( في كميته ) .
قوله
: ) فَاكْتُبُوهُ ( أمرٌ منه تعالى بالكتابة للتوثقة والحفظ ، فَإِن قيل ثبت في الصَّحيحين عن عبد الله بن عمر قال رسول
الله صلى الله عليه وسلّم : ( إنّا أُمّةٌ أُميّة لا نكتُب ولا نحسُب ) [3]
.
فما
الجمع ؟ هذا يُسمّونه العلماء ظَاهرُ التّعارض بين القرآن والسُّنة . ظاهر أيّ
فيما ظهر لك . في الحقيقة لا يوجد تعارض أبداً لا بين القرآن نفسه ، ولا بين
القُرآن والسُّنة .
فالجواب :
القول الأوّل
أنَّ الدِّين من حيث هُوَ غير مفتقِر إلى كتابةٍ أَصلاً ، لأنَّ كتاب الله قد
سهَّل الله ويسَّر حفظه على النّاس ، والسُّنَن كذلك محفوظة عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، والذِّي أُمِر بالكتابة هي أشياء جُزئية تقع بين النّاس فأُمِرُوا أمر
إرشاد لا أمر إيجاب ، ( فَاكْتُبُوهُ ) هذا
أمر إرشاد .
وهذا
هو القول الأول وهو قول جماهير المفسّرين .
القول الثّاني :
أنَّ الأمر بِالكتابة أمر إيجاب وهو رأي الطّبري رحمه الله ، حيث قال إنَّ كَتبَ
الدُّيون واجبٌ على أربابها ، وفرضٌ بهذه الآية والصَّحيح
هو القول الأوّل وأنِّ الكتابة من قبيل الإرشاد والنَّدب لا من قبيل الإيجاب
" .
) وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ
كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ( أيّ بالقِسط والحقّ ، ولا يجُر في كتابته على أحد ، ولا يكتُب
إلاّ ما اتّفقوا عليه من غير زيادةٍ ولا نقصان . ) وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ
أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ( هذا إرشاد ، لأنَّ الكِتابة في وقت نزول الوحي قليلة ، وكان
الكُتَّاب قِلَّة فكان النّاس يأتُونَ إليهم . فقال الله عزّ وجل ) وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ
أَنْ يَكْتُبَ ( لماذا ما يأب ؟ الله هو الذّي علّمه ، هذا جاهل لا يكتب . فمن زكاة هذا العلم أن تُؤدِّيه كما قال النّبي صلى الله
عليه وسلّم ( إنَّ من الصَّدقة أن تُعين صانعاً أو تصنع لأخرق ) [4]
ثُمَّ قَال الله عزّ وجل ) فَلْيَكْتُبْ (
*
وهذا توكيد معنوي لقوله أن يكتب .
*
وقيل بل هي تأسيس معنى جديد تُفِيد الأَمر
بالمبادرة إلى الكتابة .
) وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ
أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ( سياق الآية أن يقول ) وَلْيُمْلِلِ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ ( فيكون الكلام متَّسِقاً لماذا أعاد الأمر بالكتابة ؟
قال
بعض العُلماء أنّه توكيد للكِتابة ، وقال بعض العُلماء بل
هُو تأسيس معنى جديد ، وهو الكتابة الأولى قوله : ) وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ ( أمر بالكتابة مطلقاً " فَلْيَكْتُبْ
" دَعوة للمبادرة في الكِتابة . أيُّهُما أولى وهذه قاعدة في التّفسير ، إذا دار المعنى بين التَّوكيد والتأسيس ، نحمل المعنى على
أيِّهما ؟ على التَّأسيس ، لماذا ؟ لأنّه يحمل معنىً جديد .
قال
الله ) فَاكْتُبُوهُ ( هذا أمرٌ للدَّائِنين وقلنا أنّه أمر إرشاد والطَّبري قال أمر
إيجاب .
وأمَّا
الكَاتب قال بعضُ أهل العلم أنّه يجب عليه أن يكتُب خاصَّةً إذا توقَّف ثُبُوتَ
الحقّ على الكِتابة وهذا رأي الطَّبري متَّسِق فجعل الأوامر كلَّها من باب الوجوب
هُنا في هذه الآية .
وأمّا ابنُ العَربيّ رحمه الله في كتابه أحكام القُرآن فيراهُ أمرَ
إرشاد
[5]
. إلاَّ إذا تعيَّن على الكاتب يعني أنت أتيت إليَّ وأنا مشغول وأعرف أنَّك ستجد
كاتباً آخر ، فهل يجب عليّ أن أترك أعمالي وأكتب لك ؟ أم أَدُّلك على شخص آخر تذهب
إليه ؟ قد يقول قائل : لا أريد أن يكتب أحداً لي إلا أنت ! وأنت تقول له يوجد غيري
، ولكن يقول لك لا أكتب لي أنت ، الله أَمَرك أن تكتب لي .
أليس
هذا أيُّها الإخوة امتحان للنّاس ؟ ولذلك الصَّحيح
أنّه أمرَ إرشاد لا أمر إيجاب ، إلاّ إذا لم يوجد غيره فهنا يتعيّن
عليه الكتابة . ويجوز له أخذ الأجرة على ذلك لأنَّ الكتابة صَنعَة .
قال
الله تعالى ) وَلْيُمْلِلِ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ ( من هُو الذِّي عليه الحقّ ؟ الذِّي عليه الدَّين هو الذِّي يُملل
، أيّ وليُملِل المدين على الكاتب ما في ذِمَّته من الدَّين ، وليتَّق الله في ذلك
.
ثمّ
قال الله ) وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ
شَيْئًا ( لَمَّا جَعَل الله عزّ وجل لك الإِملال
وهو : أن تقول
والكَاتب يكتُب . فقال الله بعدها ) وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ
شَيْئًا ( أي لا يَنقُص في كمِيَّته ، ولا في كيفيته ، ولا في نوعه ، ولا في
وقته .
) فَإِنْ كَانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ ( أيّ صاحب الدَّين ) سَفِيهًا ( يعني مَحجوراً عليه بتبديلٍ ونحوه لا يعرف ) أَوْ ضَعِيفًا ( والضَّعف يشمل ضَعفَ الجِسم ، وضَعف العَقل سواء كان صغيراً أو
مجنوناً . ) أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ
أَنْ يُمِلَّ هُوَ ( يُملّه يعني يُملي الكتابة ) فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ ( أيّ وليّ هذا الرّجل إمّا السَّفيه ، أو الضّعيف أو الذّي لا
يستطيع إمّا أخرس أو فيه جهل
ما يعرف يكتُب - معناه لا يستطيع التَّعبير - أو غير ذلك
.
) فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ ( أيّ وليّ صاحب الدّين ) بِالْعَدْلِ ( كذلك أمره بما أمر به صاحب العدل .
فالقُصُور إذاً ثلاثة : السَّفه ، الضَّعف سواءَ ضَعف
الجسم أو العقل ، عدم الاستطاعة لأيِّ سبب من
الأسباب .
ثمّ
قال الله عزّ وجل ) فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ
بِالْعَدْلِ ( الضَّمير في وليُّه عائدٌ على من ؟ قال بعضُ أهل العلم أنَّ
الضَّمير عائدٌ على الحقّ أيّ وليَّ الحقّ وصاحبه وهُو رأي الطبري ، وضَعَّفَ هذا
الزَّجاج والقُرطبي ، وقال إنَّ الضمير عائدٌ إلى الذّي عليه الحقّ ، إذاً الصّحيح أنّ الضَّمير عائدٌ إلى الذِّي عليه الحقّ .
ثمّ
قال الله عزّ وجل ) وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ( أمرٌ بالإِشهَاد مَع الكِتابة وهذا أمرٌ زائدٌ على الكِتابة لأنّك
تكتب ثمّ تُشهد وهذا قد جرت العادةً عند النّاس كذلك يكتُبُون ثمّ الشَّاهد الأوّل
والثّاني . ) فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ
( طيِّب أربع نِساء هل يصلُح ؟ لابد معهُنّ رجل بنصِّ القُرآن ، قال
الله عزّ وجل ) فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ( وهذا إنّما يكون في الأموال وما يقصُد به المال . وإنّما أقيمت
المرأتان مقام الرَّجل لنقصان عقلها .
كما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه
وسلّم أنه قال : يا مَعشَرَ النِّساء تصَدَّقن وأكثرن الاستغفار فَإنّي رأيتُكُنّ
أكثر أهل النَّار . فقالت امرأةٌ منهُنّ جَزلة : ومالنا يا رسول الله أكثر أهل
النّار ، قال : تُكثرنَ اللّعن وتكفُرنَ العَشِير . ما رأيتُ من ناقصات عقلٍ ودِين
أغلب لِذِي لُبٍّ - أيّ لِذِي عَقلٍ - منكُنّ ، قالت : يا رسول الله ما نُقصَان
العَقل والدِّين ؟ قال : أمَّا نقصان عقلها فشهادة امرأتين تعدِل شهادة رجل فهذا
نُقصَان العقل ، وتمكُث اللّيالي لا تُصلّي وتُفطِر في رمضان بسبب حيضٍ أو نفاس ،
فهذا نقصان الدِّين . [6]
وقد
جعل الله المرأة على النَّصف من الرَّجل في عدّة أحكام هُنا في الإشهاد ، وفي الميراث ،
وفي العقيقة فإنَّ الولد يُعَقّ عنه شاتان والبنت
يُعقّ عنها شاة واحدة .
ثمّ
قال الله عزّ وجل ) مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ
الشُّهَدَاءِ ( فلم يُحدِّد الشاهد وجعَلها للعُرف ، لذلك
قَال السَّعدي : ( والعَدالة يُشترَطُ فيها
العُرف في كُلِّ زمانٍ ومكان ، فكُلُّ من كان مرضيِّاً مُعتَبَراً عند النَّاس
قَبِلنا شهادته ، فلا نشتَرِط ونقول لا يشهد إلا حافظ القُرآن ! وإنَّمَا نترك
الأمر إلى ما تعارفَ عليه النَّاس إن كان هذا الرَّجُل مَرضِي شهادته ويُؤَدِّيها
كما هُي ) [7] .
نقبل
شهادته وهذا من رحمة الله بالعِباد لو اشترط علينا شروط لصَعُبَ علينا هذا الأمر .
قال ابن كثير :َ( هذا
مقيِّد ، حَكَمَ به الشَّافعي على كُلّ مطلق في القرآن من الأمر بالإشهاد من غير
اشتراط ) [8] .
قال
تعالى ) أَنْ تَضِلَّ
إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى (
أن تضلّ : بمعنى أن تنسى :
) إِحْدَاهُمَا ( أيّ إحدى المرأتين .
) فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا
الْأُخْرَى ( أي تُخبرها وتقول لها لقد شَهِدنا .
وقد
أَبعَد كُلَّ البُعد من قال فتُذَّكِر من الذُّكورة بمعنى أنّ المرأتين يُصبحان
رجُلاً واحداً ! وهذا قِيل في التَّفسير بل هَذَا ضَعيف )
.
) فَتُذَكِّرَ ( من التَّذكير وليست من الذُّكُورة ، وهو من غَرائب التّفسير .
يعني بعض المفسرين لما ذكر ) فَتُذَكِّرَ ( قال تجعلها ذكراً يعني امرأتين في الشهادة تجعلها ذكراً ، وهذا
ليس بصحيح ، بل نقول : إذ لو كان هذا المعنى لصحّ أربع نساء ، لكن القرآن لم يُرد
بهذا إنما قال : ) فَتُذَكِّرَ ( من التَّذكير ) فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ( رجُل واحد ، وامرأتان فقط .
قال تعالى ) وَلَا يَأْبَ
الشُّهَدَاءُ ( فيها معنيان :
المعنى الأوّل : إذا دُعُوا للتَّحمُّل فعليهم
الإجابة .
المعنى الثَّاني : وقيل وهو مَذهب الجُمهور أنّ المراد ) وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا
( أنها الأداء. فَمَا الفَرق بين المعنيين ؟
المعنى الأول المراد به : أيّ دُعُوا للتَّحمُل ، الآن أصلاً
لا تُوجد شهادة ، فإذا دعوتُكَ لتشهَد ، أقول لك عندي كذا وكذا يقول ) وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا
( .
المعنى الثاني المراد به : وهو قول جُمهور المفسِّرين
أنّ المراد بها ليست دعوة الشَّهادة ، وإِنَّما دعوة الأداء أنَّك شهدت وانتهيت ،
فاحتاج صاحبُ الدَّين أن تُدلِي بشَهَادَتِك لا تَأبى ، لأنَّ إثبات حقَّه
مُتَوَّقِفٌ على دعوته .
إذاً
أيُّهما أصحّ ؟ كُلَّها صحيحة ، الآية تحتمل هذا وتحتمل هذا . هل بَينهُما تَعارض
؟ ليس بينهما تعارُض . فهنا قاعدة في التَّفسير إذا
استطَعنا أن نحمل الآية على كُلِّ المعاني التِّي قِيلت فيها فهُوَ أولى من حَصرها
على معنىً واحد بشرط أنّها لا تتعارض هذه المعاني ، هل هُناك تَعارُض
بين تَحمُّل الشَّهادة وبين أَدَائِهَا ؟ لا . إذاً نقول الآية تحتمل المعنيين .
قال
تعالى ) وَلَا تَسْأَمُوا ( وهذا إرشادٌ آخر . ) أَنْ تَكْتُبُوهُ
صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ( وهذا من تَمَام الإِرشاد .
) وَلَا تَسْأَمُوا ( أيّ : لا تَمُلُّوا أن تكتُبُوا الحقّ على أيّ حال كان من
القِلَّة إلى أجله ) ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ
اللَّهِ ( الضمير ) ذَلِكُمْ ( يرجع إلى ماذا ؟
لكل
الآداب التِّي ذُكِرت في الآية الكِتَابة ، والإرشاد ، وتحمُّل الشَّهادة وأدَائها
) ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ
اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ( أقسَط أيّ أعدل ، وأقوم للشّهادة : أثبَت للشَّاهد إذا وضع خَطّه
ثمّ رآه تذَكَّرَ به الشّهادة ) إِلَّا ( استثناء . ) أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا
تَكْتُبُوهَا ( إذاً إذا كان البيع حاضراً يداً بيد فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء
المحذور .
ثمّ
قال الله عَزّ وجل ) وَأَشْهِدُوا إِذَا
تَبَايَعْتُمْ ( .
فالشّهادة الأولى : للدِّين المؤجّل .
والشَّهادة هنا - الثَّانية - : للبيع الحاضر
. لماذا أُعفِيَ من الكتابة ، وطُلِبَ منه الشَّهادة ؟
) وَأَشْهِدُوا إِذَا
تَبَايَعْتُمْ ( هل هو أمر إيجاب أم أمر إرشاد في المبايعات الحاضرة ؟
الصَّحيح أنَّه أمر إرشاد للاحتياط فقط . ولِذلك قَال القُرطبي : - كلام نَفِيس في هذا الباب - قال :
( ما زَال النّاس يَتَبَايَعُون حَضَراً ،
وسَفَراً ، وبَرّاً ، وبحراً ، وسَهلاً ، وجَبلَاً من غير إشهاد ، من غير نكير ،
ولو وجب الإشهاد ما تركوا النّكير على تاركه )
[9]
إذاً كُلَّها آداب في الآية .
ثمّ
قال تعالى ) وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ
وَلَا شَهِيدٌ ( الضَّرر واقِعٌ على من ؟ ما معناه ) وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ
وَلَا شَهِيدٌ ( ؟
القول الأوّل : قال بعض العُلماء : ) وَلَا يُضَارَّ ( أيّ لا يَضُرّ الكَاتب والشَّهيد صَاحب الحَقّ .
القول الثَّاني : ولا يَضُرّ صاحب الحقّ الكاتب
والشَّاهد . بأيّ صورة من صُوَر المُضارَّة .
إذاً يحتمل عندنا أحد أمرين ) وَلَا
يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ( :
-
إمّا أنّ الضَرر واقع على صَاحِب الحقّ ، وفاعل الضّرر الكاتب والشّاهد - الشاهد
أن يشهد بخلاف الحق والكاتب أن يكتب خلاف الحق - .
-
ولا يُضار صاحب الحق الكاتب والشّاهد .
وكِلا المعنيين صحيح . انظر إلى بلاغة القرآن قال ) وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ
وَلَا شَهِيدٌ ( ، لماذا احتملت كلا المعنيين ؟ قال العلماء لأنَّ ) يُضَارَّ ( يَصِح أن تكون بالفتح مِن " يُضارَر
" الكاتب والشَّهيد ، أو " يُضَارِر
" الكَاتب والشَّهِيد فَأَتت على ما لم يُسمِّى فاعله ، فأتت تحتمل
كِلاَ المَعنيين ، ولِذَا الصَّحيح أنَّ كِلا القولين
صحيح والحمد لله .
قال
تعالى ) وَإِنْ تَفْعَلُوا
فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ( تفَعلوا ماذا ؟ المُضَارَّة أيّ إِن خَالفتُم ما أُمرتُم بِهِ ،
وفَعلتُم ما نُهيتم عنه ) فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ
( .
) وَاتَّقُوا اللَّهَ ( أيّ خَافوه ورَاقِبُوه ، واتّبَعُوا أمره ، واتركُوا زجره . ) وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ( مثل قوله تعالى ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ( [10] وكقوله تعالى ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا
بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا
تَمْشُونَ بِهِ ( [11] .
فتَقوى الله عزّ وجل من أَعظم أسباب
العلم
. ) وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( أيّ عالِمٌ بحقائق الأمور ، ومصالحها ، وعواقبها فلا يخفى عليه
شيء من الأشياء ، بل عِلمُه محيطٌ بجميع الكائنات .
ثمّ
قال الله عزّ وجل ) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى
سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ( السَّفر هو مُفارقة محلّ الإقامة ، ) وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا ( أيّ يَكتُب لكم .
قال ابن عبّاس : وإن وَجَدُوه ولكن لم يجدوا قرطاساً
أو دَاوةً ، فالمعنى تعذَّرت الكتابة .
قال
الله ) فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ( الرّهن لغةً : الحبس ، وشرعاً : هو توثقة دين بعين
يُمكن استِيفَائِه ، أو بعضه منها .
مثال : أن تَبيع مبايعة وترهن بيتك ، أو سيَّارتك ، أو
أيّ شيء . العين هذه يمكن استيفائه يأخذها ويبيعها ويأخذ حقه منها ) فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ( أيّ فَليَكُن بَدل الكِتابة رهانٌ مقبوضة في يد صاحب الحقّ .
القول الأول : وقد استدلّ بعضُ أهل العِلم في قوله
تعالى : ) فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ( أنَّ الرَّهن لا يلزم إلاّ بالقبض يعني لابد أن يكون الرّهن
مقبوضاً كما هو مذهب الشَّافعي والجُمهور .
القول الثاني : واستدلّ آخرون على أنّه لابُدَّ أن
يكون الرَّهن مقبوضاً في يد المُرتَهِن وهو رواية عن الإمام أحمد وذَهَب إليه
طائفة .
والقول الثّالث : أنَّ قبض الرَّهن ليس بشرط لا
للصِّحة ولا للزُّوم ، يعني هل يلزم إذا أَرهنتك بيتي أن أخرج وأمَّكِنَك من بيتي
وإلا لا يلزم ؟ ثلاث أقوال للعُلماء في هذه المسألة والصَّحيح أنّه لا يلزم القبض
، وأنّ الرَّهن يلزم بمجرَّد كِتابة هذا الرّهن . أنَّه رَهَنَ لك هذا الأرض يلزم
وما زال النّاس يتَبايعون يرهنُون بيوتهم وسياراتهم ويمشون عليها . وإن لم أستطع
أن أُوَّفيّ الحقّ مكنّتك من الرَّهن . وهَذا هُو القَول
الصَّحيح .
لم
يُبيِّن الله عز وجل كيفية القبض هنا في هذه الآية فنرجع في ذلك إلى العُرف ، وهذه
قاعدة : كُلّ ما لم يُبيَّن كيفيّتُه فيُرجَع فيه إلى
عُرف النّاس . ولذلك دائماً التَّعاملات
المالية يُرجَع فيها إلى العُرف .
قال
الله ) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى
سَفَرٍ ( فهل يجوز الرَّهن في الحَضَر ؟ الله قال ) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى
سَفَرٍ ( هذا في غالب الأحوال ألاّ تتوفَّر الكتابة ، وإلاّ فإنَّ النَّبي
صلى الله عليه وسلّم مات ودرعه مرهُونة عند يَهُوديّ فصحّ على أنّ الرّهن يجوز في
الحَضَر والسَّفر .
ثمّ
قال الله عز وجل ) فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ
بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ( يعني لا يلزم الرَّهن إذا حصلت الأمانة ، وإنّما الرَّهن لِزيادة
توثقة .
قال الشَّعبي : ( إذا ائتمَنَ بعضُكُم بعضاً فَلا
بأسَ ألاَّ تكتبُوا أوّ لا تُشهِدُوا ) وَلْيَتَّقِ اللَّهَ
رَبَّهُ ( [12] - يعني المؤتَمن - كما جَاء في الحديث عن
سمُرَة عن النَّبي صلى الله عليه وسلّم : ( على اليَدِ ما أخذت حتّى تُؤَّدِيَه ) [13] .
) وَلَا تَكْتُمُوا
الشَّهَادَةَ ( أيّ لا تُخفُوها . قال ابن عبَّاس :
شَهادَةُ الزُّور من أكبر الكبائر وكُتمَانُها كذلك .
يقول
الله عزّ وجل ) وَمَنْ يَكْتُمْهَا
فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ ( قال السُّدِّي : أيّ فاجرٌ قلبُه . وهذا كقوله
تعالى ) وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا
إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ ( [14] وهنا قال ) وَمَنْ يَكْتُمْهَا
فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ ( وهذا من تفسير القرآن بالقُرآن .
ثمّ
قال الله سبحانه وتعالى ) لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ( يخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وما فيهن وما بينهنّ ، وأنه
المطَّلِع على ما فيهن لا تخفى عليه الظواهر ولا السَّرائر والضَّمائر وإن دقَّت
وخفيت وأخبر أنه سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم كما قال سبحانه ) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا
فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ( [15] وكما قال في آية أخرى ) يَعْلَمُ السِّرَّ
وَأَخْفَى ( [16] .
وقد
أخبر في هذه بمزيدٍ على العلم وهو المحاسبة على ذلك ، الله يعلم وهُو كما يعلم
يُحاسِب . روى الإمام أحمد عن أبي هريرة : قال - انظروا
أهل الإيمان ، الصّحابة يا إخواني - لما نزلت ) لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ( اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلّم ، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وجثوا على الرُّكب ، وقالوا : يا
رسول الله ! كُلِّفْنَا من الأعمال ما نُطِيق : الصلاة ، والصيام ، والجهاد ،
والصّدقة ؛ وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله - يُؤدِّبهم يُربِيهُم
- : « أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قَبلكم : سمعنا وعصينا ؟ بل
قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير » فقالوا : كما أمرهم النّبي صلى
الله عليه وسلّم ، لماذا فضل الصّحابة على النّاس ؟ لماذا أصبحوا خير القُرون ؟
بهذه المُمِّيزات ، فلما أقَرَّ بها القَوم وذَلَّتْ بها ألسنتهم أنزل الله في
أثرها : ) آَمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ
بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ
الْمَصِيرُ ( يُثني عليهم ربُّهم جلّ وعلا . فلمَّا فعلوا
ذلك نَسَخَها الله عزّ وجل بقوله ) لَا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ( [17] .
فَامتنّ
الله عزّ وجل على هذه الأُمّة أنّهم أطاعوه ولم يَقُولوا سمعنا وعصينا كاليهود .
أضِف إلى ذلك أنّ الله عزّ وجل خفّفَ عليهم .
ومن العلماء من قال : أن لا نسخ وهذا هو
الصّحيح
. وأنّه لا يَلزم من المُحاسبة المعاقبة ، وهناك
قاعدة لابد من بيانها وهو : أنّه يكثر في كتب التّفسير أنّ هذه الآية منسوخة ، بل
آية السّيف آية التَّوبة قالوا نَسَخَت أربع عشر ومائة آية .
ولذلك
ينبغي أن نعلم أنّه لا يوجد من القُرآن المنسوخ - على التَّحقِيق - إلاَّ آيات لا
تتجاوز عدد أَصابع اليدين . لو حقَّقنا المَسائل الأخيرة في النَّسخ لا يصح منها ،
والبَاقي يصلُح الجمع . مثل ما جمعنا في هذه الآية ، وأنَّ المحاسبة لا يلزم منها
المُعاقبة . أَضِف إلى ذلك أنَّ السّلف رحمهم الله عندما يُعبِّرون بالنّسخ فإنّهم
يَعنُون النَّسخ بمعناه العَام ، فَيدخُل فيه تقييد المطلق ، وتخصيص العام ،
ويدخُل فيه النَّسخ الشرعي .
نكتفي
بهذا القَدر ، أسأل الله لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح وصلى الله وسلّم
وبارك على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
[1]
زاد المسير .
[2] سؤال لفضيلة الشيخ : نداءات الرحمن لأهل الإيمان للشيخ أبو بكر الجزائري
هل تنصحون به ؟ نفع الله بعلمكم .
[3]
صحيح البخاري باب قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ
نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ » .
[4]
الراوي : - المحدث : أحمد شاكر - المصدر : عمدة التفسير - الصفحة
أو الرقم : 1/339 ، خلاصة حكم المحدث : لم أجده بهذا اللفظ .
[5]
قال ابن العربي في أحكام القرآن : ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
: قَوْله تَعَالَى { فَاكْتُبُوهُ } يُرِيدُ يَكُونُ صَكًّا لِيَسْتَذْكِرَ بِهِ عِنْدَ
أَجَلِهِ ؛ لِمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ الْغَفْلَةِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُعَامَلَةِ
وَبَيْنَ حُلُولِ الْأَجَلِ ، وَالنِّسْيَانُ مُوَكَّلٌ بِالْإِنْسَانِ ، وَالشَّيْطَانُ
رُبَّمَا حَمَلَ عَلَى الْإِنْكَارِ ، وَالْعَوَارِضُ مِنْ مَوْتٍ وَغَيْرِهِ تَطْرَأُ
؛ فَشُرِعَ الْكِتَابُ وَالْإِشْهَادُ ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ
.
وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: { أَوَّلُ مَنْ جَحَدَ آدَم قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا
خَلَقَهُ مَسَحَ ظَهْرَهُ ، فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ فَعَرَضَهُمْ عَلَيْهِ ، فَرَأَى
فِيهِمْ رَجُلًا يَزْهَرُ ، فَقَالَ : أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا ابْنُك
دَاوُد .
قَالَ : كَمْ عُمُرُهُ ؟ قَالَ : سِتُّونَ
سَنَةً .
قَالَ : رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ
.
قَالَ : لَا إلَّا أَنْ تَزِيدَهُ
أَنْتَ مِنْ عُمُرِك فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ مِنْ عُمُرِهِ ، فَكَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ كِتَابًا وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْبِضَ
رُوحَهُ قَالَ : بَقِيَ مِنْ أَجَلِي أَرْبَعُونَ سَنَةً .
فَقِيلَ لَهُ : إنَّك قَدْ جَعَلْتهَا
لِابْنِك دَاوُد .
قَالَ : فَجَحَدَ آدَم .
قَالَ : فَأُخْرِجَ إلَيْهِ الْكِتَابُ
، فَأَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ ، وَأَتَمَّ لِدَاوُدَ مِائَةَ سَنَةٍ وَلِآدَمَ
عُمُرَهُ أَلْفَ سَنَةٍ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي
قَوْله تَعَالَى : { فَاكْتُبُوهُ } إشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ إلَى أَنَّهُ يَكْتُبُهُ بِجَمِيعِ
صِفَاتِهِ الْمُبَيَّنَةِ لَهُ الْمُعْرِبَةِ عَنْهُ الْمُعَرِّفَةِ لِلْحَاكِمِ بِمَا
يَحْكُمُ عِنْدَ ارْتِفَاعِهِمَا إلَيْهِ ) .
[6]
صحيح مسلم باب بَيَانِ نُقْصَانِ الإِيمَانِ بِنَقْصِ الطَّاعَاتِ
وَبَيَانِ إِطْلاَقِ لَفْظِ الْكُفْرِ عَلَى غَيْرِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ كَكُفْرِ النِّعْمَةِ
وَالْحُقُوقِ .
[8]
وقوله : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } فيه دلالة على
اشتراط العدالة في الشهود , وهذا مقيد حكم به الشافعي على كل مطلق في القرآن من الأمر
بالإشهاد من غير اشتراط وقد استدل من رد المستور بهذه الآية الدالة على أن يكون الشاهد
عدلاً مرضياً . وقوله : { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } يعني المرأتين إذا نسيت الشهادة
{ فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } أي يحصل لها ذكر بما وقع به من الإشهاد ,
وبهذا قرأ آخرون فتذكر بالتشديد من التذكار , ومن قال : إن شهادتها معها تجعلها كشهادة
ذكر فقد أبعد . والصحيح الأول , والله أعلم .
[9]
تفسير القرطبي .
[10]
سورة الأنفال 29 .
[11]
سورة الحديد 28 .
[12]
تفسير ابن كثير .
[13]
سنن ابن ماجه ، باب الْعَارِيَةِ .
[14]
تفسير ابن كثير .
[15]
سورة آل عمران 29 .
[16]
سورة طه 7 .
[17]
الراوي : أبو هريرة المحدث : أحمد شاكر - المصدر : عمدة التفسير
- الصفحة أو الرقم : 1/344 ، خلاصة حكم المحدث : [ أشار في المقدمة إلى صحته ] .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق