فضيلة الشيخ د. محمد بن عبد الله الربيعة
سورة البقرة من الآية (1) إلى الآية (5)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
) الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) (
الله عز وجل افتتح هذه السورة بحروف مقطعة , وهنا فائدة ذكرها ابن كثير رحمه الله وهي أن كل السور التي افتتحها الله بحروف مقطعة تضمنت الانتصار للقرآن والإشارة إليه إلّا سورتين أو ثلاث , ومع ذلك هاتان السورتان ذُكر فيهما إشارة للقرآن لكن هذا استقراء جيد .
هذا الافتتاح الذي يشير إلى تحدي العرب بالقرآن الكريم , فمجمل أقوال المفسرين في الحروف المقطعة أنها لبيان إعجاز القرآن وأنه مؤلف من هذه الحروف التي نتحدّث بها ونتكلم بها , فيها إعجاز ثم ذكر الله في الآية الأولى الثناء على القرآن , وهذه الآية هي أعظم آية تضمنت الثناء على القرآن في كتاب الله عز وجل وبيـان كماله ) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (
وتأملوا معي الصفات الأربع التي تضمنت هذه الآية ، فيها كمال القرآن :
أولاً : قال الله عز وجل ) ذَلِكَ ( وذلك إشارة إلى ماذا ؟ بُعد ، إذا قلت ذلك الرجل يعني بُعد مكانته في الرجولة , ولله ولكلامه المثل الأعلى , إذا قلت ذلك الكتاب يعني ذلك الكتاب الذي قد بلغ منزلة عالية فهو كامل في منزلته , هذا الوصف الأول كامل في منزلته فهو أعلى الكتب وأعظمها .
كمال مضمونه .
ثم قال ) ذَلِكَ الْكِتَابُ ( ولم يقل ( ذلك كتاب ) ولم يقل ( ذلك القرآن ) قال ) ذَلِكَ الْكِتَابُ ( بمعنى أي استغرق جميع معاني الكتاب , وتضمن في مضمونه جميع ما في الكتب كلها , لأن الألف واللام كما تعلمون للاستغراق ,كما قلت لكم في الدرس الماضي ذلك الرجل أو هذا الرجل يعني الذي استغرق صفات الرجولة فهذه الصفة الثانية وهي كمال مضمونه .
الصفة الثالثة : في قوله ) لَا رَيْبَ فِيهِ ( أي لا نقص ولا ريب ولا خلل ولا أمر من أمور النقص والخلل فيه , وعبّر بالريب دون الشك لأن الريب يشمل الشك وأقل , فليس فيه أدنى ريب واضطراب , وليس فيه أدنى نقص من أي ناحية من نواحي النقص ، فهذا دال على الوصف الثالث كمال سلامته ومضمونه من النقص
الوصف الرابع : كمال مقصده في قوله تعالى ) هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ( فمقصده هو الهداية , فهذا دليل على اكتمال المقصد فدلت هذه الآية على كمال القرآن من أربعة وجوه .
وقوله ) هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ( ولم يقل ( هدى للمؤمنين ) لأنه هنا يشير إلى المنتفعين بالقرآن ،
من هم المنتفعون بالقرآن ؟
المنتفعون بالقرآن هم الّذين تحلّوا بالتقوى ، والتقوى هي تجمع أمرين :
الأمر الأول : هي التخلّي عن الموانع .
الأمر الثاني : هي التحلّي بالأسباب الباعثة على الانتفاع .
فمن حقق هذان الوصفان حققهما تحقيقاً صادقاً فإنه سيحقق كمال التقوى كمال الهدى .
فما هي الموانع ؟
الموانع هي التكذيب والكفر والإعراض والرياء والغفلة وعدم التصديق وغير ذلك وكل ما يمنع من الانتفاع فهو داخل في هذا الباب .
وما هي الأسباب الباعثة ؟
التصديق والإقبال وحضور القلب , والإيمان والرغبة , وغير ذلك . كل ذلك داخل في هذا المعنى فتأملوا هذا جيداً بارك الله فيكم .
ثم قال الله عز وجل ) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( .
فتأملوا هذا وصف من ؟
وصف المتقين , هي صفات من حقق كمال التقوى أو صفات من حقق كمال الاهتداء بالقرآن , فلننظر ما هي قال الله عز وجل ) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( والغيب هو كلما أخبر الله عز وجل عنه ورسوله مما لا ندركه في عقولنا , ومن الغيب ربنا عز وجل الذي نؤمن به ولم نره فهو من الغيب , ومن الغيب الملائكة , ومن الغيب علم الآخرة وأحوال الآخرة , ومن الغيب ما لم يطلعنا الله عز وجل عليه أو لم يطلع أحد من خلقه وقد أخبرنا به , فمن حقق الإيمان بهذا الغيب تحقيقاً صادقاً فإنه قد اهتدى بكتاب الله عز وجل وهو أهل للانتفاع ، فبذلك افتتح الله تعالى الصفات بالإيمان ولم يقل آمنوا قال ) يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( أي أن ذلك أمر متجدد في نفوسهم مستمر فيهم .
وهنا مسألة لماذا افتتح الله تعالى الصفات بالإيمان بالغيب ولم يقل الّذين يؤمنون بالله ؟
هذا الافتتاح مناسب لأحوال العرب الّذين آمنوا ابتداءاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبهذا القرآن من غير علم سابق , ولذلك أشار للقسم الثاني وهم أهل الكتاب الّذين آمنوا من أهل الكتاب قال : ) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ( فكأن الآية تضمنت طائفتين الطائفة الأولى الّذين آمنوا من العرب أي آمنوا بالغيب من غير علم سابق فلم يكن عندهم علم من الكتاب سابق , ) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ( أي من أهل الكتاب الّذين سبق لهم كتاب الله عز وجل بما أنزله على رسلهم , فاشتملت الآية الطائفتين ، وإنما ذكر الله تعالى الطائفتين ليكون ذلك باعثاً للعرب وباعثاً لأهل الكتاب أن يؤمنوا ,كأن الله تعالى يقول : يا أهل الكتاب أنتم مذكورون أثنى الله عليكم في هذا القرآن فآمنوا وصدِّقوا فما أعظم هذا المعنى حينما نتأمله .
ثم قال الله عز وجل : ) وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ( ما قال ( يصلّون )لأن إقامة الصلاة القيام بالشيء هو أداءه على أكمل وجه , فإذا قلت إنسان قائم يعني معتدل تمام الاعتدال ، فحينما يؤدي الإنسان صلاته باعتدال وإقامة تامّة بأركانها وواجباتها وشروطها وسننها فذلك الذي قام بالصلاة حق القيام .
ثم قال الله تعالى ) وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( لاحظ أنه قال مما رزقناهم , كأنهم آمنوا واعترفوا بأن هذا رزق الله عز وجل فأنفقوا منه , والإنسان حينما يُنفق المال وهو يستشعر أن هذا مال الله وأن هذا من رزق الله وليس لي فيه فضل , فذلك أعظم في صدقته ولا شك أعظم من الذي يستشعر أن هذا فضل منه على ذلك الفقير أو على ذلك المحتاج فلنستشعر هذا المعنى الدقيق أن الإنسان وهو يُنفق وهو يتصدق يقول ليس لي من ماله هذا شيئاً إلّا مما آتاني الله - عز وجل - ولذلك قال الله : ) وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ ( [ .
ثم قال هنا ينفقون ولم يقل ينفقون من أموالهم فماذا يدل عليه هذا الإطلاق دون التقييد .. ذكر شيخ الإسلام معنى لطيف ينبغي أن نستحضره قال : ( يدخل في هذه الآية جميع أنواع الإنفاق , ومن أعظمه إنفاق العلم وبذله , فأعظم ما ينفقه الإنسان هو نشر العلم والدعوة إلى الله , وبذل الخير للناس , ويدخل فيه أيضاً الأموال , لكن أعظم الإنفاق مما رزقك الله مما مكّنك الله منه في ذلك كله ) .
فيدخل في ذلك المساهمة في وجوه الخير , وفي جمعيات البر وجمعيات تحفيظ القرآن والدعوة إلى الله والجاليات , وفضل الله واسع .
ثم قال الله عز وجل ) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ( هذا إشارة إلى المؤمنين من أهل الكتاب .
ثم ) وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( ختم الله عز وجل الصفات باليقين بالآخرة لأنه افتتح بالإيمان بالغيب , فاشتملت الآيات على ثلاثة أمور :
الإيمان بالغيب : 1)ابتداءاً
2)ثم عملاً
3)ثم جزاءً .
لاحظوا يؤمنون الإيمان الكامل من حيث إيمانهم ابتـداء بالله عز وجل وبما يلزم ذلك
, ثم العمل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة , وإنما خصّ هذين العملين لأنهما أساس الأعمال البدنية والمالية , فالصلاة تشير إلى الأعمال البدنية والزكاة أو الإنفاق تشير إلى الأعمال المالية وغير ذلك مما ذكره أهل العلم في هذا .
ثم ختم الله تعالى الآيات بقوله ) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (
قال الله عز وجل ) أُولَئِكَ ( فهم في درجة رفيعة قد حققوا الهدى كمال الهدى , لأنه قال قبل ذلك ) هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ( من هم الّذين يحققون الكمال ؟
هؤلاء الّذين هذه صفاتهم
, ثم بيّن الله جزاءهم فقال : ) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى ( فقوله : ) عَلَى ( أي تمكّنوا من الهدى تمكّناً كاملاً , ( فعلى ) تُفيد التمكّن وإشارة بالبُعد ) أُولَئِكَ ( إشارة لبعيد تدل على بعد منزلته بالهدى , ثم قال : ) مِنْ رَبِّهِمْ ( أضاف الهدى من ربهم تشريفاً وتكريماً منه سبحانه وتعالى .
ثم بيّن أنهم ( مفلحون) والفلاح هو الفوز التام , والظفر بالفوز التام في الدنيا بالسعادة والتوفيق والعون من الله وغير ذلك , وفي الآخرة برضوان الله تعالى وجنته .
فانظروا كيف حازت هذه الآيات كمال صفات المؤمنين المهتدين بالقرآن نسأل الله أن يجعلنا من المهتدين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق