مقصد هذه السورة العظيمة
وإذا فهمنا مقصدها فإننا سنلم بإذن الله تعالى بمعانيها
عموماً وشمولها وارتباط آياتها ببعض .
إنكم
تعجبون أن تكون هذه السورة في طولها وتعدد موضوعاتها والقضايا التي عُرضت بها ,
كيف يمكن أن تُجمع في غرض واحد عظيم ,
هذه
السورة أيها الإخوة ما استغرقت هذه السنين العشر إلا لغرض عظيم وهو
إعداد أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في حمل أمانة الدين وتكليفها بالشريعة
وتبليغها ، هذه باختصار ما يمكن أن نقول أنه عمدة السورة ومقصدها إعداد أمة
الإسلام لحمل أمانة الدين وتكليفها بالشريعة وتبليغها .
نظره عامه لسوره البقره
لاحظوا
معي أيها الأحبة .. أن هذه السورة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول :
هو في بيان أصول الإيمان والعلم . وهو من الآية الأولى حتى الآية مائة وستة وسبعين
.
هذا
الجزء الأول يمثّل الأساس , والقاعدة العلمية , وهو الذي فيه تهيئة النفوس لهذه
الأمانة العظيمة ، وهو ركز هذا القسم عن الحديث عن القرآن , فافتتحه بـ ) الم ( واختتمت هذا القسم بقوله ) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ
نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ( إثبات بعد بيان بأن هذا القرآن حق ) وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( ففي الكتاب افتتح هذا القسم وبالكتاب أيضاً اختتم .
وهذا
القسم أيها الأحبة يُعتبر كالتمهيد والإعداد للمؤمنين الّذين سيتلقّون أمانة الله
وشريعته , وسيكونون على قاعدة إيمانية صلبة ثابتة ينطلقون منها في تلقّي التشريع
بالامتثال الكامل وهو منهج تربوي عظيم أن يؤسس الإنسان ما يمكن أن يربي عليه يؤسس
تأسيساً عظيماً ثم ينطلق فيما يريد تحقيقه .
ولعلنا
نستعرض هذا القسم أيها الإخوة استعراضاً سريعاً فأنتم تلحظون أنها افتتحت أولاً
بالإشارة بالقرآن وبيان كماله من عدة وجوه , ثم تحدثت السورة عن أصناف الناس مع
هذا القرآن فافتتحت الحديث عنهم بالمؤمنين وصفاتهم ثم بالكافرين وصفاتهم ثم
بالمنافقين وصفاتهم وأطالت الحديث عنهم , ثم بعد ذلك جاء الخطاب جمع هؤلاء الطوائف
كلها بقوله ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ( يعني بعد أن ذكر القرآن وأصناف الناس فيه دعاهم جميعاً إلى عبادة الله
وحده , وأثبت ذلك بالأدلة والبراهين , وأثبت حق نزول القرآن وأنه من عند الله عز
وجل , ثم بعد ذلك ذكر ما آل إليه المعارضون من الكافرين من أهل الكتاب وسعيهم إلى
التشكيك في القرآن حين قالوا : كيف يُضرب بهذا القرآن العظيم كلام الله يُضرب به
الذباب مثلاً والعنكبوت مثلاً , فكأنهم أرادوا أن يوقعوا الشُبه في هذا القرآن ,
فبرأه الله تعالى .
ثم جاءت بعد ذلك قصة آدم ، قصة آدم تُمثّل ماذا ؟
تُمثّل
أصل الهداية التي استمرت بالرسل إلى يوم القيامة , ولذلك جاءت في قصة آدم قول الله
عز وجل ) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ( فكأن هذه الأمة المحمدية يُشار إليها بأنكم تستخلفون آدم في هذه الأرض
, وأنكم ترثون ما كُلّف به وهو الهداية , في آخر قصة آدم قال
) قُلْنَا اهْبِطُوا
مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ
فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( وهذه هي النقطة التي افتتحت بها السورة بقوله ) هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ( فانظروا كيف وصل هذه
الهداية ..
ثم بعد ذلك جاءت قصة بـني إسرائيل وأطال الحديث فيها ، لماذا ؟
لأن
بني إسرائيل هم الأمة المستخلفة قبل هذه الأمة ، هم الّذين مُنحوا شرف الخلافة ,
ومُنحوا شرف التشريع والأمانة في الدين , لكنهم كذّبوا وعصوا وعاندوا , وعصوا
رسلهم وشددوا على أنفسهم , فجاء الحديث عنهم في دعوتهم للتذكير لهم بنعمة الله عز
وجل في ثلاث آيـات أعـادها الله عليهم ) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ( وهو يخاطب اليهود في المدينة حتى لا يكفروا ) وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ
كَافِرٍ بِهِ ( أي بالقرآن وبالنبي صلى الله عليه وسلم , ومع ذلك أَبَوا وعَصَوا
واستكبروا كما استكبروا وعتوا وكذّبوا رسلهم , فقال الله عنهم ) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ
يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ
ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ( ثم الله عز وجل بيّنهم وجلّى
صفاتهم وطبائعهم ليحذر المؤمنون وليكونوا على يقظة وليكونوا على حذر من مشابهتهم .
ثم
جاءت قـصة البقـرة التي سنتحدّث عنها إشارة إلى ما كان من حالهم مع أوامر الله ,
كيف حالهم مع أوامر الله ؟
كان
حالهم مع أوامر الله الاستهزاء والسخرية وعدم الاستجابة والتردد والتعنت والتشدد ,
فهذه حالهم , فكأن الله تعالى يُحذّر هذه الأمة أن تكونوا مثل بني إسرائيل في
تلقّي أوامر الله احذروا أن تكونوا مثلهم , لا تقولوا سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا
وأطعنا .
فلذلك
سميت السورة بالبقـرة وهذا سر تسميتها , ولعلنا نُبيّن بإذن الله إذا واصلنا
الحديث عنها .
ثم
بعد ذلك جاء الحديث عن إبراهيم عليه السلام وهو الأصل الثاني الذي ترجع إليه الأمم
والذي جعله الله خليفة وإماما ) وَإِذِ ابْتَلَى
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَامًا ( فهو يذكّر هذه الأمة أنكم يا أمة محمد أنتم الوارثون لإبراهيم حين
تكونون على أمر الله عز وجل وفي ذلك شرف عظيم , وتذكير بعظم الأمانة وما حفّها
الله تعالى بها من تكليف , ولذلك ارتبط ذكر إسماعيل بإبراهيم في هذه السورة ، لماذا ؟
لأن
هذه الأمة هي الأمة الوحيدة التي كانت من سلالة إبراهيم وإسماعيل ، أما أمم بني
إسرائيل فكانت من سلالة إسحاق من إبراهيم عليه السلام , ولذلك جاء ذكر الأمة في
قوله ) رَبَّنَا وَابْعَثْ
فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ( .
ثم
بعد ذلك أيها الأحبة جاء ذكر القبلة التي كأنها شرف هذه الأمة ميّزها الله تعالى
به ، فكأن الله قال لهذه الأمة قد منحتكم قبلة إبراهيم وقبلة الأنبياء من بعده ,
فإشارة لأن الله شرّف هذه الأمة بالأمانة ولا شك , أن الله حين ورّثها أو كلّفها
وشرّفها بالقبلة وحولها إليها قبلة إبراهيم , ذلك تكليف , لذلك قال الله في هذه
الآيات في آية القبلة ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( .
ثم
جاءت آية القبلة وما تبعها إلى أن خُتمت الآيات بقوله تعالى ) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ
نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ
لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( .
هذا
القسم كله تمهـيد لهذه الأمة وتهيئـة لأن تتلقى أوامر الله تعالى بتعظيم , واهتمام
بالغ وحذر من أن تُشابه بني إسرائـيل .
ثم جاء القسم الثاني
وهو في تكليف هذه الأمة
بالشرائع وابتدأ من آية (177) إلى آخر السورة , ولعلنا نستعرض هذا استعراضاً
سريعاً , فهذا يُمثّل القاعدة العملية والتفصيلية , ولو تأملنا في هذا القسم أيها
الإخوة القسم الثاني وجدناه يرتكز على بناء الأصول وحفظ الضرورات الخمس ، حفظ
الضرورات الخمس .
تأمّلوا
معي أيها الأحبة أنه جاء في حفظ الدين آيات الصيام وآيات الحج و ) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ( وغيرها من الآيات .
ثم
جاء حفظ النفس وهو الضرورة الثانية والمهمة في قوله تعالى في آيات القصاص ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( وتأملوا كيف افتتح الله تعالى آيات الأحكام بآيات القصاص , لأن حفظ
الأمن هو سبب لإقامة الشريعة.
ثم
جاء حفظ العقل بآيات الخمر ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ( .
ثم
جاء حفظ النسل بآيات النكاح والطلاق ) وَلَا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكَاتِ ( إلى آخرها .
ثم
جاء حفظ المال بآيات الإنفاق وآيات الربا وآيات المداينات .
انظروا
كيف جاء التشريع بهذا الترتيب , والعجيب أيها الإخوة أن سورة البقرة تضمنت الأحكام
التي اتفقت الأديان على أصولها هذه مسألة مهمة , لكنه خالف فيها أهل الكتاب أو شددوا فيها على
أنفسهم , وحرّفوا فيها وعطّلوا , فجاء الله عز وجل بتكذيبها وتصحيحها وتخفيفها
لأمة الإسلام , ولذلك تلحظون أن في خلال آيات البقرة جاء الإشارة للتخفيف والتيسير
) ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ( ، ) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ( في آيات الصيام أيضاً إشارة لذلك ، كل ذلك إشارة إلى أن الله عز وجل
يشعرنا بهذه الأمة أن الله أراد بنا الرحمة وكلفّنا بالشريعة السمحاء على أكمل وجه
وأيسر ما كان .
وأيضا
هذه الأحكام في السورة ركّزت على الأحكام التي فيها إصلاح المجتمع المسلم ، وذلك
لأنها نزلت في بداية تأسيس الدولة الإسلامية النبوية وبناء نظامها الأساس وهي
الأحكام المتعلقة بالضرورات الخمس كما ذكرت , ولذلك أطال الله تعالى فيها بأحكام
الطلاق وأحكام الأسرة .
وأنكم
لتعجبون أيها الإخوة كيف أطال الله تعالى بذكر أحكام الطلاق ولم يكون ذلك لأحكام
الصلاة ؟
هذا سؤال مهم جداً لماذا الله عز وجل فصّل في أحكام الطلاق وذكرها
بأحكام دقيقة , ولم يفصّل في أحكام الصلاة ؟
ذلك
لسرٍّ عظيم أيها الإخوة وهي أن الأحكام المتعلقة بالعبادات بين الله وبين العباد
مبنية على المسامحة , والله غفور رحيم , والله تعالى أسندها أو أوكل بيانها إلى
النبي صلى الله عليه وسلم , لكن المعاملات والحقوق التي منها حقوق الأسر وحقوق
الأسرية والزوجية والمالية هذه مما جُبلت النفوس على المشاحة فيها والنزاع والخلاف
والعدوان والظلم , فتولّاها الله - عز وجل - برحمته بنفسه حتى لا يقول قائل لم
أجدها في كتاب الله تعالى لأنها مظنة الخلاف والنزاع والظلم والعدوان أنزلها الله
تعالى وبيّنها بنفسه لتعظم في نفوس الناس , وليعلم الناس عظمها وعظم من خالف ذلك
في أمر الله تعالى .
فهذا
سر التطويل بآيات الطلاق وآيات المواريث وآيات الأموال في هذه السورة وغيرها .
جمع
شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هذان المقصدان أصول العلم والعمل في هذه السورة في
كلام نفيس قال : ( وقد ذكرت في مواضع ما اشتملت عليه سورة البقرة من أصول العلم
وقواعد الدين ) أصول العلم العقيدة والإيمان , وقواعد الدين الشريعة .
تأملوا كيف جاءت في خلال التشريعات جاءت آية الكرسي ، فما مناسبتها
؟ وجاءت آيات القتال ) كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ (
فما مناسبتها ؟
أما
آية الكرسي فلأن هذه الأحكام التشريعية عظيمة لا يستطيع أن يحملها ويقوم بها إلّا
من ثقُل قلبه بالإيمان والتعظيم لله عز وجل ، فلذلك جاءت آية الكرسي التي هي أعظم
آية في كتاب الله عز وجل لتُرسّخ في قلوب المؤمنين الإيمان والتعظيم لله عز وجل ,
فتكون باعثاً لهم على الانقياد والامتثال لهذه الأحكام , فما أعظم رحمة الله - عز
وجل - أن أعاننا على تحمل هذه الأعباء في ترسيخ الإيمان في قلوبنا .
ولذلك هذا السر في مشروعية قراءة آية الكرسي في دبر كل صلاة ,
لماذا ؟ لماذا نقرأها , ولماذا نقرأ في دبر كل صلاة الإخلاص والمعوذتين ؟
هذه
مسألة مهمة ينبغي أن نعيها ، لأن هذه الآية تجدد في قلوبنا الإيمان , والإخلاص
والاعتصام بالله - عز وجل - ففي كل وقت نجدد الإيمان ونجدد العبودية بالفاتحة ,
ونجدد الإخلاص بسورة الإخلاص , ونجدد الاعتماد على الله بالمعوذتين , أرأيتم كيف
التوحيد يتجدد في قلب المؤمن في كل صلاة هذا سر وهذا معنى يغفل عنه كثير من الناس
وهو يقرأ هذه السور في دبر كل صلاة , يجب أن نستحضره أيها الإخوة ليزيدنا إيماناً
وعبودية وإخلاصاً .
تجدون
أيها الإخوة في هذه السورة أن السورة ركّزت على جانب التقوى تركيزاً كبيراً , فقد
أحصيت المواضع التي وردت في التذكير بالتقوى فبلغت خمسةً وثلاثين موضعاً في
التذكير بالتقوى , في صيغ مختلفة مدمّجة لآيات الإيمان وآيات الأحكام وغيرها لماذا
؟
كل
ذلك لأن التقوى كما قال بعضهم هي الحارس اليقظ في داخل الضمائر التي تبعث النفس
على تعظيم هذه الأوامر والتقيّد بها , تتقي الله عز وجل في امتثالها .
ثم انظروا كيف خُتِمت السورة , وبماذا اختتمت ؟
خُتمت
أيها الأحبة بشهادة الله عز وجل لهذه الأمة ، يعني بعد أن كلّفهم بهذه التكاليف
وبهذه الأوامر وشرفهم بهذه الأمانة فاستجابوا وآمنوا وامتثلوا وسمعوا , الله
سبحانه وتعالى شهِد لهم بالإيمان .. وشهِد لهم بأنهم استجابوا في آخر السورة فقال
: ) آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا
أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ( ثم قال الله عز وجل : ) كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ
وَقَالُوا ( مـاذا ؟ ) وَقَالُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا ( لم يكونوا كما قـال بنو إسرائيل ) سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ( فهذه شهادة الله لهذه الأمة كرامة لها , فما أعظمها من شهادة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق