تفسير الآيات من 142 - 144

تفسير الآيات من 142 - 144

بسم الله الرحمن الرحيم

) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) 

 

هذه الآيات حقيقة تحتاج منّا إلى تأمّل دقيق فهي آيات التشريف لهذه الأمة  شرّف فيها هذه الأمة بأعظم شرف وهو ولاية القبلة , قبلة إبراهيم لهم , فهي تأتي اتصالاً في سياق السورة  في إعداد الأمة لحمل أمانة الدين والشريعة وتبليغها في الأرض  فما أعظم أن نتأمّل هذه الآيات على وفق هذا المعنى  وصلتها بالآيات التي قبلها , أنه لما ذكر البيت وذكر تشريف إسماعيل ببنائه كأنّ المشركين وأهل الكتاب توجّسوا من أنّ الله عز وجل سيُشرّف وسيُكلف هذه الأمة بالقبلة ويشرفها بقبلة إبراهيم عليه السلام , دليلاً على تنصيبها بالخلافة وتكليفها بذلك فتوجّسوا في ذلك , فقال الله تهيئة للمؤمنين الله أكبر , ما أعظم هذا الإعداد , نحن قلنا أنّ السورة كلها إعداد , فالله تعالى ينبه المؤمنين بما سيقع من الكافرين والمنافقين وأهل الكتاب قبل وقوعه , فقال الله ) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ( لاحظوا قال الله : " سيقول " لم يقل " قال " مع أنّ الآية نزلت بعد أن حوّل الله المؤمنين إلى البيت الحرام , مباشرة نزلت ) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ ( لكنّ النبي صلى الله عليه وسلم وضعها في هذا الموضع تهيئة للمؤمنين ليستقبلوها ويُعدوا أنفسهم لما سيُواجهونه , لاشكّ أنّ الإنسان إذا استعدّ للأمر فسيُهيئ نفسه له ويرى كيف يواجه وكيف يردّ الشبهة ونحو ذلك , قال الله : ) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ( من هم السفهاء ؟! اختلف المفسرون في هذه الآية اختلافاً كثيرا , لكن حينما نرى الآيات كلها السابقة أين ذكر السفهاء في السورة ؟! ذُكروا في موضعين , الموضع الأول إشارة لمن ؟ للمنافقين , قال الله : ) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ ( إذاً هذا الوصف للمنافقين فهم داخلون هنا وأنهم سيقول المنافقون ذلك , والثانية قوله : ) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ( من هم ؟! يدخل فيها المشركون أهل مكة لأنهم رغبوا عن إبراهيم , ويدخل فيها أهل الكتاب , فهذا ذكرٌ لهم جميعاً , جمعهم الله تعالى بهذا اللفظ , لم يقل سيقول المنافقون والمشركون واليهود , قال السفهاء , وإنما عبّر عنهم بالسفهاء تقليلاً لشأنهم أنهم ليس لهم شيء ، وليس لقولهم أهمية لا تنظر إليهم , أنت ولله المثل الأعلى إذا قابلت سفيه تقول اتركوه يعني لا تأبه به , فكأن الله تعالى يُخفف على المؤمنين موجة المُعارضة التي سيُواجهونها من هؤلاء , والاستهزاء والسخرية وغير ذلك , تركوا قبلتهم واتبعوا قبلة آبائهم إلى غير ذلك , فكأنّ الله تعالى يقول اتركوهم , فهؤلاء لا عقول لهم , السفيه هو ناقص العقل فالله يستنقص عقولهم تخفيفاً على المؤمنين وتهيئةً لهم , قال : ) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ( هذه الجملة اختلف فيها المفسرون اختلافا كثيرا وأشكلت عليهم , ما هي القبلة ؟! قال بعضهم هذه القبلة هي قبلة الكعبة قبل أن يوجّه لبيت المقدس , وقال بعضهم هي بيت المقدس , وقال بعضهم هي بيت الحرام بعد أن وجّه وحُوّل من بيت المقدس, وبالتأمّل الثاقب في هذه الآية والتي بعدها يظهر والله تعالى أعلم أن الآية محتملة لجميع الأقوال , لأنّ القول قد يكون من الكفار ومن المشركين ومن المنافقين ومن اليهود , وكل قول سيلمز المسلمين بالقبلة التي توجّه إليها أولاً , فالمشركون حين وُجّه إلى بيت المقدس قالوا ترك ما كان عليه آباءهم , واليهود حين وُجّه من بيت المقدس إلى بيت الحرام قالوا رغب في قومه , رغب في أهليه وبلده , انظر كيف يبثّون الشبه , فالله تعالى هنا عمّم القبلة فقوله : ) مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ( شاملة للمواضع كلها, قال الله : ) قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ( هذا رد عليهم , ما شأنكم الأمر لمن ؟ ومن الذي يقرّه ومن الذي يُدبّر الأمر؟! هو الله عز وجل , له المشرق والمغرب , هو المتصرّف في الأمور , فإذا اطمأنّ الإنسان أنّ ذلك هو الله تعالى الذي وجّهه فلا عليه من لـوم لائـم ولا من استهزاء مستهزئ , قال الله : ) يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( هذه لفته إشارة على شرف المؤمنين بأنّ الله هداهم إلى صراط مستقيم , وما الذي هداهم إليه ؟! هداهم إلى قبلة الأنبياء جميعاً من إبراهيم عليه السلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أما ما كان عليه اليهود والنصارى من بيت المقدس فليس هو مما كان عليه أنبيائهم , وإنما قيل أنّ سليمان - عليه السلام - سأل ربه أن يُوجّه بني إسرائيل إلى بيت المقدس , وإلا كـان عيسى وكان موسى - عليهما السلام – ، موسى - عليه السلام - كان على قبلة أبيه إبراهيم لم يكن إلى بيت المقدس هذا هو الصحيح الظاهر كما جاءت به الآثار , فكأنّ الله تعالى يقول أم أنني هديتُ هذه الأمة إلى قبلة الأنبياء جميعاً , وهذا شرف وفضل ولاشكّ فهو تطمين للمؤمنين وتهيئة لهم إلى أنكم لا يضركم ولا يغيركم ما قاله هؤلاء السفهاء .

قال الله عز وجل في الآية الأخرى بعد ذلك : ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( هذه الجملة ما علاقتها بالقبلة ؟! هذه الآية تُشير إلى مقصد السورة العظيم الذي ذكرتُ لكم وهو تشريف هذه الأمة المحمدية بالخلافة , تشريف أمة الإسلام بعد أن ولاها الله القبلة كأنّه قال أنتم الخُلفاء في الأرض , قال الله : ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ( ولاشكّ أنّ الوسط يُطلّ على جميع الجهات , وإن كان الوسط هنا له دلالات كما سيأتي , فانظر ليس له علاقة في القبلة هنا , لكنها دلالة على تشريف هذه الأمة وإعدادها للخلافـة وتشريفها , الله عز وجل أراد أن يمنحها وينصبها في الأرض خلفاء ) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ ( فهذه الجملة أشكلت على كثير من المفسرين , في موضعها في ما علاقتها بالقبلة ؟! ليس لها علاقة صريحة واضحة , ولكن بعد التأمّل وقد أشار إلى ذلك بعض المفسرين إلى أنّ هذه الآية ليس لها ارتباط بالقبلة مباشرة وإنما ارتباطها بأنّ الله لمّا ولى أمة محمد بالقبلة وأراد لها أن تشّرف بالقبلة قال أنتم الخلفاء في الأرض , أنتم الذين تنالون شرف الأمانة ، أمانة الدين ولاشكّ أنّ هذا هو أعظم الشرف , والعجيب في الأمر وإن كان هذا والله أعلم موافقةً أو توافقـاً ) كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ( هذه الآية جاءت في وسط سورة البقرة تماماً , سورة البقرة 286 آية , وسطها 143 والله أعلم ولعلّ ذلك له دلالة أشار إليه بعض المفسرّين , ولذلك قال الله : ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ( ما قال الله هنا خلفاء , لماذا ؟! ليدلّ على أنّ هذه الأمة المحمدية وسط في الأمم , شرّفها الله بأن تكون وسطاً في الدين , في كل التكاليف هي وسط , هي وسط بين التكاليف , بين اليهود في تشدّدهم وتشديد الله عليهم وبين اليهود في تساهلهم وتيسير الله عليهم فكانت أمةً وسطاً , والوسط في اللغة : هو الخيار العدول , ) قَالَ أَوْسَطُهُمْ (  ليس وسطهم عمراً , ) قَالَ أَوْسَطُهُمْ ( أي خيرهم وأعدلهم وأكملهم , فالمقصود هنا الكمال , الخيار , العدول , فهذه الأمة خير أمة , في سورة آل عمران قال الله في فضل هذه الأمة ) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ (  , فهذه الآية دالة على الخيرية ودالة على العدالة , والعدل هو الذي يستشهد وتُقبل شهادته هو العدل الثقة خير الناس , فلهذا نأخذ من هذه الآية أنّ مشروعية الشهادة خصوصاً في أمور الدين لمن كمُل إيمانه وعدالته وديانته , قال لله : ) لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ( لماذا هذه الأمة كانت شهيدة على الناس ؟! لأنها آخر أمة , فهي أعلم بالأمم جميعاً , من كانت على الحق ومن كانت على الباطل , وهذا شرفٌ من الله لها وهذا متى ؟ هي شهيدة على هذه الأمة في الدنيا وفي الآخرة , أمّا في الدنيا فهم شهداء على الناس في إقامة الدين وهذا تكليفٌ من الله عز وجل لهذه الأمة إلى أن تقوم بالدين , فالشهيد هو الذي يبلغ كما قال الله عز وجل ) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( فالأمة هنا شاهدة على الأمم بإقامة الدين الصحيح ، الله عز وجل كلفها , وهذا نأخذ منه أنّنا مأمورون بتبليغ هذا الدين , ونحن شهود عليه بتبليغه وأنّه الحقّ ، الله عز وجل أكرمنا به , فلابدّ أن نبلّغ , نحن مأمورون أن نبلّغ الأمم بدين الله عز وجل يوم أن شرّفنا به وأكمل لنا الدين , فما أعظم هذه الآية , ثم أيضا هذه الآية دالة على أنّ أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - تشهد على الأمم يوم القيامة , تشهد على الأنبياء أنهم بلّغوا رسالة الله , وتشهد على الأمم بأنهم لم يكونوا على الدين الصحيح , أعظم من هذا شرف أنّ الله تعالى يُنصّبها للشهادة يوم القيامة على الأمم الأخرى والله إنّ هذا لهو الفضل العظيم , والخير والكرامة والشرف الكريم , قال الله عز وجل : ) وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( أي الرسول شهيداً عليكم بتبليغكم , وشهيداً عليكم بتمسّككم بالدين وقيامكم به حقّ القيام , في ذلك حقيقة توثيق لهذه الأمة أنكم مربوطون بهذا النبي ، فانظروا ماذا يعمل فاعملوا به وبمـا كان عليه ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ (  فهو شهيد عليكم ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا ( فكونوا على ما كان عليه , ثم اعلموا أنه يوم القيامة يشهد عليكم , لاشكّ أنّ هذا توثيق أيها الإخوة , لو قلت لشخص ولله المثل الأعلى ولكتابه , هذا الشخص ترى يتابعك شهيداً عليك , لاشكّ أنّك ستُراقب نفسك وأعمالك وستقوم بالأمر خير القيام , فالله عز وجل يقول أنّ الرسول يشهد عليكم إن كنتم على حقّ أو على باطل فاستقيموا كما أمركم الله , ثم قال الله عز وجل : ) وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ( ما هذه القبلة ؟! اختلف فيها المفسرون كاختلافهم في القبلة الأولى , إنّ هذه الآية واردة قبل قوله : ) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ( هذه آية التحويل لكن الآية التي قبلها واردة قبلها فأشكلت على بعض المفسرين , كيف تلك قبلها مع أنّ الآية التي فيها التوجيه ) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ ( لكن الصحيح وهي لفتة مهمة أنّ الآيات السابقة نزلت بعد آية ) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ ( والله أعلم لكن النبي صلى الله عليه وسلم وضعها في موضعه هذا لتهيئة المؤمنين ومحاجّة الكافرين والله أعلم , ثم قال تعالى : ) لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ( لاشكّ أنّ تحويل القبلة أمر عظيم , تصوروا أننا نؤمر بتحويل القبلة لاشكّ أنّ هذا داعي إلى اليهود , وهم الذين تُحوّل النبي صلى الله عليه وسلم عن قبلتهم , ماذا تتوقعون أن يقولوا ؟! لاشكّ أنهم سيستهزئون ويسخرون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ترك قبلته , كأنهم يقولون هذا دين على حسب أهوائهم مرةً هنا ومرةً هناك , هذا لسان حالهم وقولهم , كيف يوم تتجه لبيت المقدس ومرة للبيت الحرام , فالله تعالى قال : ) لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ( ممن هو صادق من المؤمنين في إتباع الرسول فيما ولاه الله عليه , قال لك الرسول صلى الله عليه وسلم وأمرك بأمر فهل أنت متبّع له أم لا؟! ) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ( هذا الصدق, فهو لاشكّ أنه ابتلاء للمؤمنين , فالمنافقين سيسخرون بهم والكافرين سيسخرون بهم واليهود سيسخرون بهم , فهذا موضع الامتحان والابتلاء في هذه القبلة , فكانت هذه القبلة اشتملت أمرين , تشريف وتكليف وابتلاء , تشريف بأنّ الله ولاهم قبلة إبراهيم , وتكليف لأنّها ستُلاقي بسبب هذا الابتلاء هذا النيل والاستهزاء والسخرية من هؤلاء المعارضين , قال الله : ) وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ( يعني تحويل القبلة كبير أمره عظيم ) إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ( إلا من كان إيمانه مستقرّ وهداهم الله لهذا الدين وهم المؤمنون الصادقون المتبعون للنبي صلى الله عليه وسلم , أمّا المنافقين فكان في قلوبهم ريب , وبثّهم لذلك الشبه , وكذلك اليهود , قال الله عز وجل : ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( معنى هذه الآية أنّ الله تعالى لما حوّل القبلة من البيت المقدس إلى البيت الحرام , وكان من المؤمنين منهم عثمان بن مظعون وغيره من كان على بيت المقدس وتوفي , قال المنافقون الآن من المؤمنين من مات على غير الإسلام , ووقع في حال المؤمنين الصحابة ما حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟! هل كمُل إيمانهم ؟! هل نقص ؟! ما هي أعمالهم التي عملوها وصلاتهم هل تقبّلها الله ؟! كان ذلك سبيل للشيطان وسبيل لأولئك المنافقين واليهود في زعزعة قلوب المؤمنين , فانظروا الله عز وجل هنا يسدّ كل شبهة على المؤمنين حتى يكونوا مطمئنين بأمر الله عز وجل , ويكونوا على تمام اليقين بهذا الحكم , فما أعظم رعاية الله عز وجل لهذه الأمة , قال الله : ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( الإيمان هنا المقصود به الصلاة , لكن لماذا عبّر عن الصلاة بالإيمان ؟! للدلالة على أنّ الإيمان هو مناط القبول في الصلاة , وأنّ الله تعالى سيتقبّل من أولئك صلاتهم لإيمانهم وصدق التوجّه , ليس المقصود التوجّه , ) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ ( فكأنّ الله يقول ما داموا ماتوا على الإيمان فإنّ الله سيتقبّل منهم كل شيء عملوه لله عز وجل مّما أمرهم الله فشملت الصلاة وغيرها , هذا من فضل الله عز وجل أنّ الله أجابهم بما أشكل عليهم وزيادة توضيحاً وتحقيقاَ وبياناً تامّاً , وهذا يؤكدّ في هذه الآية أنّ الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان , لأنّ الله سمى الصلاة إيمان فلزم أن أشتمل الإيمان على هذه الأمور الثلاثة الاعتقاد والقول والعمل الذي منه الصلاة .

) إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( لماذا ختم الله الآية بالرأفة والرحمة وما الفرق بينهما ؟! قالوا أنّ الرأفة أرقّ من الرحمة وهي عناية ورعاية في أمر شاقّ , وأنّ الرحمة رعاية وعناية في أمر فاضل وعمل صالح , بمعنى أنّ هؤلاء المؤمنين أصابهم بسبب تحويل القبلة مشقّة أليس كذلك ؟! وهو استهزاء هؤلاء المنافقين فكانوا بحاجة إلى رأفة الله وعنايته , فالرأفة تكون لمن أصابه ضرّ أو أصابه مشقّة , والرحمة هي مقابل ما أكرمهم الله عز وجل بولاية البيت تشريفاً وتكريماً فهو رحمة , من رحمة الله أنّ الله تعالى أكرمهم بهذا البيت وهذه القبلة ، فانظروا إلى هذا الختام العجيب الدقيق للدلالة على رعاية الله عز وجل في المؤمنين بحفظهم من كيد هؤلاء الكافرين والمنافقين واليهود , وردّ كيدهم ورحمت بهم أنّ ولاهم الله هذا البيت تشريفاً لهم وتكميلاً ورحمة منه سبحانه وتعالى وفضلا .

هنا نقف في هذه الآيات لعلنا إن شاء الله نُكمل الحديث حول آيات القبلة في المجلس القادم .

نسأل الله - عز وجل - أن يُحقق في قلوبنا الإيمان , وأن يرزقنا العلم والعمل , وأن يرزقنا فهم كتابه وتدبّره والعمل بما فيه , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

يتبع بإذن الله 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق