ثم
ابتدأ الله الحديث في الأحكام مباشرة ، جاءت الأحكام مباشرة ، ما هي الأحكام الذي افتتح الله تعالى وابتدأ بها ، أهي
الصلاة ، أو الصيام ، أو الحج ، أو الزكاة ؟
كل
ذلك لم يبتدئ الله عز وجل به ، وإنما ابتدأ بأحكام القصاص ، لاحظوا الحكمة الإلهية
العظيمة في افتتاح الله عز وجل هنا بالقصاص قال : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( يعني أول تشريع في السورة تشريع القصاص ، جاء بعده الصيام ثم بعده
الحج ، ثم الأحكام الأخرى المتعلقة بالأسرة ، ما السر
يا ترى ؟
هل
القصاص أهم من الصيام وأهم من الحج ؟ ، لا وإنما أيها الإخوة السورة كلها في بناء
المجتمع المسلم والدولة المسلمة ترسيخها وتثبيتها لإقامة الدين وكيف يقوم الدين ؟
لا يقوم الدين إلا حين يلتئم الأمن
وتستقر الحياة ، كيف يقيم الناس دين الله وهم على خوف في أنفسهم
؟! ما أعظم حكمة الله أيها الإخوة في هذا الافتتاح ، أن
الله أراد أن يحفظ حياة الناس أولاً قبل أن يشرع لهم التشريعات ، كأنه يقول
حياتكم أولاً فهل تقيمون ديني بعد أن أقيم لكم الأمن ؟ والله إن هذه الآية يا
إخواني تحتاج منا إلى تأمل ووقفة في حكمة الله ورحمته في أن الله تعالى أراد هنا
استقرار الأحوال وتوطد الأمن ليقام الدين على أكمل وجه . أرأيتم أيها الإخوة كيف
هي حال الدول التي يضطرب فيها الأمن ، من الدول المجاورة ، والله يا إخواني إنهم
لا يستطيعون إقامة الشعائر الظاهرة أحياناً من الصلاة !!!
كثير
منهم لا يستطيع أن يصلي في المسجد لماذا ؟
يخشى
التفجير . كم فُجِر من مسجد في العراق ، في الصومال ، في باكستان ، كم نسمع خلال
هي السنة فجر عدد من المساجد بمن فيها من مصلين ، أرأيتم كيف إن إقامة الأمن
واستقرار الأمن سبب لإقامة الدين ، فهذه الآية دليل صريح ظاهر على العناية الإلهية
قبل العناية البشرية بأمر الأمن واستقراره ، وأنه السبب الأول لإقامة دين الله عز
وجل ، والله ما أعظم الله حينما عنى بذلك وما أعظم أن يقوم الإنسان بشكر الله عز
وجل بإقامة دين الله يوم أن يبقى مستقراً قد وفر الله تعالى له أسباب العيش تامة .
ولهذا
أيها الإخوة تأملوا افتتاح الآية بقوله : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا ( ثم قال : ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( كتب يعني فرض وأوجب عناية بكم وبحياتكم وبأمنكم ، والكتابة هنا ليس
هي الفرض بمعنى المتعين على كل شخص أن يقيمه ، لا وإنما هو القصاص إذا وقعت واقعة
من قتل أو نحوه تحتاج إلى إقامته ، فليس كمثل ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ ( ، وإنما هو لإقامة هذه الشعيرة وهذه الفريضة وهذا الحد ، إذا
استدعى ذلك حدث لزمه . والمقصود بالقصاص ، ما هو ؟
المماثلة
والمساواة في الِقوَد ، ولذلك عُبِرَ فيه لتضمنه معنى المساواة والتعبير به أيها
الأحبة القصاص الذي يعني المساواة والمماثلة ، يفيد
ماذا ؟
يفيد
إظهار حكمة الإسلام في التشريع وهو إقامة العدل والمساواة بين الناس في حفظ حقوقهم
، ليس هناك فرق في الإسلام بين غني وفقير ، ورئيس ومرؤوس ، في حق الحياة كلهم سواء
عند الله عز وجل ، ليس هناك فضلٌ في الإسلام لرئيس
على مرؤوس ولا لذكر على أنثى ، كلهم سواء في حق الحياة ، فمن اعتدي عليه ،
فيُعتدى على من اعتدى عليه بالقصاص ، ولو كان غير
مكافئ له في الجنس من ذكر وأنثى ، أو في المنزلة بين رئيس ومرؤوس ، أو ضعيف
وغني أو فقير ، وما أعظم هذا في حكمة الله ، وشرع الله الذي يثبت لنا حقاً أن هذا
الدين ، دين الله عز وجل ، أقامه لعباده المؤمنين سوياً ، أو عباده سوياً .
ولاحظوا أنه هنا ذكر الأنثى ولم يذكر الذكر لماذا ؟ قال : ) وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ
وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ( ولم يقل " الذكر بالذكر " من
يذكر لي السر ؟
لم يذكر حق الرجل ؟ أهو أقل منزلة من المرأة ؟
أولاً
قبل أن نجيب ، هذا دليل صريح عظيم على عناية الله
بالمرأة ، بأنه ذكرها ونص عليها ولم ينص على الرجل ، هذا واحد ، أما عن ذكر الرجل فلماذا ؟
لأن
حكم القصاص للرجل في الجاهلية معروف ، يقيمون حقه ، إذا قتل رجل قتل رجل وزيادة ،
لكنه إذا قتلت امرأة ، لا يقيمون حقها ، فأقام الله حقها صريحاً هنا وذكرها
بالخصوص لأنها مما أبطله وأزاله أهل الشرك وأهل الجاهلية أرأيتم كمال هذه الشريعة
!!
وأن
هذه السورة تمحص ما أبطله وأزاله وحَرَّف فيه أهل الكتاب والمشركون ، وهذا ظاهر في
كمال شريعة الإسلام ، ثم قال : ) الْحُرُّ بِالْحُرِّ ( ، المقصود التساوي وعدم التعدي والتجاوز دون إرادة الحصر ، ثم قال
الله عز وجل رحمة بالأمة يعني من فضل الله وتخفيف من الله عز وجل شرع لها ما لم
يشرع لليهود ، وهو ( العفو ) ، العفو في القصاص لم يكن من شريعة اليهود ، كانت
القصاص عند اليهود ( حتماً ) ، لا عفو فيه وكان القتل عند النصارى ( عفواً ) فجاءت
الشريعة معتدلةً ومتوسطةً في ذلك ، قال الله : ) فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ
فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ
رَبِّكُمْ ( لاحظوا كلمة تخفيف لأنها كانت قبلكم ليست مخففة فهذا إظهار لكمال
الشريعة ، إخواني الكرام ..
أريد
أن أقول أمر ، أرجو أن ترعوا لي سمعكم ، في هذه السورة لاحظت فيها والله جلياً
ظاهراً كما سيأتي وقد ذكرناه ، أن جميع الأحكام التي ذكرت في السورة فيها إظهار كمال شريعة الإسلام ، والتيسير فيها
والتخفيف ، لماذا ؟ بالذات هذه السورة ،
بالذات مع أنه في السور الأخرى قد جاءت لكن ركز في هذه السورة بيان كمال الإسلام ،
وبيان الرحمة والتخفيف ورعاية المحتاج ، ولماذا ؟
لأنني
قلت لكم تكراراً ومراراً أن هذه السورة في إعداد هذه الأمة في تلقي هذه الشريعة ،
يوم أن نعرف أن هذه الشريعة فيها رعاية لنا وتخفيف وتيسير ورحمة والله ستتلقاها
النفوس بكل طواعية وكل امتثال وكل انقياد واستجابة لله عز وجل ، ولذلك قال الله
تعالى : ) آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا
أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ( فهذا رحمة الله تعالى بنا وكمال شريعته سبحانه وتعالى ، وتشريع
العفو موافق لأصل من أصول الإسلام وهو ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ( فيه عفو ، فيه صُلح ، هذا الدين بالذات أيها الإخوة بني فيه الصلح
والعفو ، والصلح خير ، فلذلك شرع هذا تكميلاً لهذه الشريعة وتحقيقاً لهذا الأمر ،
طيب قوله تعالى : ) فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ
أَخِيهِ ( تعبير بأخيه ماذا يفيد ؟
يفيد
الترغيب في العفو يعني كأنه يقول هذا أخوك .. أخوك المسلم فأعفوا عنه ، لم يقل فمن
عفي له من وارث المقتول شيئاً قال : ) مِنْ أَخِيهِ ( ليحفزه ويدعوه لاستشعار هذه الأخوة ، فيعفو ، ثم أيضا ترغيباً
بالعفو قال : ) شَيْءٌ ( مما يدل على ماذا ؟
على
أن أي عفو من أي فرد من أفراد المقتول يسقط به القصاص ، يعني لو قتل شخص عمداً وحق
على القاتل القصاص فأي فرد من أفراد ورثت هذا المقتول
لو عفى قال : أنا عفوت سقط القصاص ، يعني لا يلزم أن يعفو جميع الورثة ،
أرأيتم رحمة الله وعنايته وحرصه على العفو ، لا شك أن هذا من كمال الشريعة ، حتى
لو جاءت امرأة ، قالت أنا عفوت ، فلها الحق ويسقط القصاص يسقط حد من حدود الله
يسقط لأجل هذه المرأة ، ما أعظم حكمة الله وأعظم رحمة الله بنا في هذه الشريعة
العظيمة الكاملة .
قال
الله عز وجل : ) فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ( ما معنى هذه الكلمة ؟
هذه
الكلمة وصايا من الله ، وصية من الله عز وجل وصية للعافي ، للعافي الذي عفى ، الذي
يعفو ، الذي له الحق ، الورثة ، وصية له بالمسامحة ومطالبة الدية بالمعروف من غير
تعنيف ، قال الله عز وجل : ) فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ
أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ( قد يكون العفو هنا يشمل القصاص أو يشمل الدية ، فلذلك يؤمر العافي
ويؤمر الوارث بالمسامحة والمطالبة بالدية بالمعروف من غير تعنيف وتشديد وإلحاح ،
الله عز وجل كتبها وفرضها لك فلا تطالب فيها بشق الأنفس ، ثم وصى المعفو عنه بقوله
: ) وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ
بِإِحْسَانٍ ( يعني حثٌ للمعفو عنه على أن يؤديها بإحسان من غير مماطلة وبخس
ونقص وتأخير ففي ذلك ضبط لباب العفو ، حتى لا يكون مجال لأحد الطرفين في المراوغة
أو المماطلة ، قال الله عز وجل نصاً صريح في التخفيف : ) ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ( وعطف رحمة على تخفيف ، ليؤكد أن شريعة الله - عز وجل - قد اشتملت
على ذلك رحمة بكم وتخفيف عليكم ، فما أعظم هذا التعبير القرآني الكريم ، ولاحظوا
أنه قال ذلك تخفيف مِمَّن ما قال " من الله " قال : ) مِنْ رَبِّكُمْ ( أي رعاية من ربكم ، فالرب سبحانه وتعالى هو المصلح لأحوال عباده
والناظر لهم بما فيه منفعتهم فهو رعاية بكم فاشكروه وأقيموا دينه كما أمركم ثم قال
الله : ) فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ
ذَلِكَ ( المراد بالاعتداء هنا اعتداء ولي المقتول يعني الورثة ) فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ
ذَلِكَ ( بأن يقتل أحد من ورثة من اعتدى على ( القاتل ) بعد أن عفي عنه أو
اعتدى على أهل القاتل أي كانوا قال الله ) فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ
ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( وإنما جاء بهذا أيها الإخوة قطعاً
لباب الاعتداء الذي كان في أمر الجاهلية حيث كانوا يقتلون بالواحد الاثنين
والثلاثة والعشرة ، فإذا قتل شخص من تلك القبيلة ، تلك القبيلة تأتي فتقتل ما شاءت
واحد أو اثنين أو عشرة ، رأيتم حكم الجاهلية ، أين
العدل ؟
أما
هنا في شرعية الإسلام قال : فمن اعتدى على حقه إن كان قصاص فهو قصاص وإن كان دية
فهو دية ) فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ
ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ثم قال الله تثبيتاً لهذا الحكم في نفوس المؤمنين وإشعاراً بأن
هذا مصلحة ، حتى لو رأيتم أن هذا فيه إزهاق لتلك النفس ، وهذا إشعار لأهل هذه
الأرض الذين ينادون اليوم في الغرب بمعارضة حكم القصاص في الإسلام ، واستهزائهم
وسخريتهم بذلك واستخفافهم بحكم الله عز وجل أن الإسـلام يزهق الأنفس ، قال الله
تعالى : ) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ
حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( من أحكم وأعلم بأمور الناس ؟
الله
عز وجل ، أنك بهذا القتل تقطع سبيل الاعتداء على الآخرين ، كم أحييت ؟ أحييت الناس
جميعاً ولذلك قال الله : ) وَمَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ( فلا شك أنه بقتل هذا الرجل يمنع الناس جميعاً الاعتداء ، ومن يجرؤ
على القتل وهو يعلم أن مصيره القتل ؟!!!
فقال
الله عز وجل : ( لكم حياة ) وهذه الكلمة أيها
الأحبة .. يقال أنها أعظم كلمة بليغة جمعت معاني
عظيمة عند العرب وإلا فكلام الله تعالى كله بليغ ، كلام الله سبحانه وتعالى
كله بليغ قال صاحب المنار - محمد رشيد رضا - في كلام جيد نفيس : ( وقد بينت هذه الآية حكمة القصاص بأسلوب لا يسامى ، وعبارة
لا تحاكى ، واشتهر بأنها من أبلغ آي القرآن التي تعجز في التحدي فرسان البيان ،
ومن دقائق البلاغة فيها أن جعل فيها الضد متضمناً لضده وهو الحياة في الإماتة التي
هي القصاص ، جعل في الضد وهو الحياة مقام
ضده وهو الموت ونكّر الحياة للإشعار بأن في هذا الجنس من الحكم نوعاً من الحياة
عظيم لا يقدر قدره ولا يجهل سره .. ) إلى آخر كلامه النفيس في هذه الآية
ولهذا قال : ) يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ( لما أنه كانت إظهار حكمة القصاص وغايته ، يحتاج إلى نظر العقول
ودقة التدبر لمعرفة المصلحة الباقية ، ليست المصلحة الحالية ، وهذه مسألة مهمة يا
إخواني في التشريع ، أن التشريع لا ينظر إلى المصلحة الحالية ، ينظر إلى المصلحة
المستقبلية الكاملة الواسعة التي تعم الناس جميعاً ، فالإنسان إذا نظر للمصلحة
الحالية الآن ، من غير نظر للعواقب يكون ذلك ربما يتجرأ أو يتسبب له خطأ في تصرفه
وعمله ثم قال الله عز وجل : ) لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( وهذا نظمٌ للتقوى في السورة كم مررنا
بكلمة التقوى في السورة ؟
كثير
، كل حكم قرن بالتقوى ، كما ذكرت لكم أنه ذكر في السورة ، التقوى ذكرت في السورة كم مرة ؟
خمسة وثلاثين مرة في
السورة هذه ، يعني كأنه عقد التقوى توثيقاً للأمر تأكيداً عليه ، فما أعظم ما بنيت
عليه هذه السورة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق