تفسير الآيات من 243 - 245
تفسير الآيات من 243 - 245
بسم الله الرّحمن الرّحيم
نستمر في الحديث عَن الآيات من سورة البقرة ، وإن كانَ الحديث عن
أحكام الطَّلاق قد مضَى ، وتأتي الآيات هنا لتتحدَّث عن أصناف النَّاس ، وعن بَني
إسرائيل - كما قُلتُ لَكُم - إنَّ بني إسرائيل جُلُّ الحَديث عنهم كان بعد قصّة
آدم ، وحتى بَدَأ الجزء الثّاني بقوله تعالى : ) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ
النَّاسِ ( ، ثمّ عادت الآيات مرّة أخرى لتتحدَّث
وتُذَّكِر وتُحذِّر مَمَّا وقعوا فيه ، فتبدأ قصّة الذِّين خَرجوا من ديارهم وهم
أُلُوف ، ثُمَّ من نَجَا ومن ثَبَت ونَزَل النَّصر عليه هم قليلٌ من قليل ، من
أولئك القوم ، ثمّ بعد ذلك أيضاً جاءت آية الكُرسي ثمّ بعدها آيات المُحاجّة ،
ومَوقف النَّاس من مسألة البَعث من مُطمئن ، ومُترِّدد ، ومُنكِر ، ثمَّ أيضاً خُتِمت
السُّورة كُلَّ السُّورة ببيان أحوال النّاس في المال بين مُنفقٍ ، ومُرَابٍ ،
وتَاجِر .
مُنفقٌ
لله عزَّ وجل وجَاءت الآيات لتُبيِّن وتُدَّقق وتُحَقِّق في آداب النَّفقة ، وأرجو
أن يتَّسِع الوَقت وأن نَمُرَّ على هَذِه ، أمَّا مَسائل الرِّبا ، ومسائل آيات
الدَّين فستكون إن شاء الله في الأسبوع القادم مع صاحب الفضيلة الدُّكتور / أحمد
البُريدي سيُتِّم ، لكن نَحنُ حتى نُنهي هذا المَقطع الخاصّ الذِّي قسَّمه الإخوان
.
يقول الله عزّ وجل ) أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ
لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا
الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا
كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (
هُنا
الآيات مُتَّصِلَة ببعضها ، فقَال الله عز ّوجل ) أَلَمْ تَرَ إِلَى ( والعَادة أنّه لمّا يُؤمر بنظرٍ عِلميّ لا يتعدَّى ( بإلى ) ، إلاَّ إذا أُريدَ منه التّأكيد وكأنّه رأيَ
العين .
) أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ ( إمَّا أنَّ المُراد بقوله :
•
هُم أُلُوف كما قال بعضُ المُفسِّرين أنَّه أربعة
آلاف
• ومنهم من قال عَشرة آلاف .
•
ومنهم من قال ثلاثين ألف .
لا
يَهُمُنَّا العدد ، وإن كان الذِّي يَهُمُنّا شيءٌ في اشتقاق العدد فالحَقيقة أنّ
العَدد فوق العشرة آلاف ، لأنَّه قال ( أُلُوف ) أو يَكونُوا مُؤتَلِفِين
.
) أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ( سواءٌ كانوا عددهم كبير ، والعادة أنَّ الخُروج
بهذه الكثرة ، أو يكونوا مُؤتَلِفين على أمرٍ معيّن خرَجوُا بهذه الكثرة ، لكن كان
خُرُوجهم وهدفهُم حذَرَ الموت ،
وجاءهم الموت :
• إمَّا على قَولِ كثيرٍ من المُفسِّرين أنّهم جاءهم الطَّاعُون ( المرض ) فانتشر فيهم المَرَض
ومَاتُوا ثُمّ بعد ذلك أحياهُم .
•
أو أنَّ الله أَمَاتهم إِماتة بلا مرض ، كأنَّ الآية
تُرشِد إلى أنَّكم خَرجتم خوفَ الموت فقد جَاءكم المَوت ، وخاصّةً أنَّ الآية
التّي بعدها ، قال الله عزَّ وجل ) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ( .
فهل فرُّوا خوفاً من المرض ، أو خوفاً من القتال ؟
ظاهر الآية أنّهم فرُّوا
من القتال بدلالة السِّياق ) أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ( أيّ موت ؟ لأنَّ الله عز وجّل قال ) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ( فكأنَّ الخوف وقع منهم خشيةَ أن يُقاتلوا ، واجتمعوا وخَرَجُوا
فَجاءهم ، فأمرهم الله عزّ وجل بهم أن يَمُوتُوا ثمّ أحياهُم ، وبَقُوا أيّاماً حتّى أنَّ بعض الرِّوايات الإسرائيلية تقول بَقِيت فيهم
ريحة الموت ، والنَّتن ، لأنَّهم بَقُوا أيّاماً موتى ثُمَّ أُحيُوا فبَقِيَ في
أجسادهم ، على كُلٍّ هذه روايات إسرائيلية ، لا يَهُمُنَّا عددهُم ، ولا
يَهُمُنَّا كيف ماتُوا ، وما هي الرائحة ، كُلُّ هذه من روايات بني إسرائيل
لا تُصَّدَق ولا تُكَذَّب ، ولَيس فيها طَائِل فائدة من ناحية الجَهل بها ، أو
العلم بها ، الأمر في ذلك يَسَع بِعلمِهَا أو بعدم عِلمها .
يقول الله تعالى : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ
لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ ( الذِّين أحياهُم ) وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) ( .
وهذه مُقدِّمة لِقصَّة المَلأ من بني إسرائيل ، وفيها
تحذيرٌ لأَهل الإيمان أن يَسلُكُوا سُلُوكهم عندما
يُفرَض عليهم الجهاد .
فقال
الله سبحانه وتعالى بعدها ) مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ( وتذكُرُون قلتُ لكم في الحديث ، أنّ
هناك دائماً ارتباط بين مسائل القتال أو الجِهاد ، وبين مسائل النَّفقة المالية ،
وأتمنى أن يُيَّسِر الله بعض البَاحثين يجمعوا في هذه
الآيات ويُدَّقِقُوا فيها ، ويُحقِّقُوا في هذه المَسألة لأنَّ هناك مواضع
وهي قليلة تقدَّمَ الجِهاد بالنَّفس على المال لكنّها مواضع يسيرة ، فتحتاج أيضاً
إلى بيان ، وإلى جَمع .
قال
الله : ) مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ( هُنّا رغَّب في النَّفقة ، وبعضُهُم عدَّ أنَّ هذه الآية
مُقَدِّمة لآيات الإنفاق ، في قوله ) مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( التّي أطال الله - عز ّوجل - وفصَّل فيها آداب النّفقة .
ولاحِظُوا
سبحان الله مع أنَّها كُلُّها أوامر ، وكُلُّ أمرٍ يأتي على شَكل ، وأَدب يأتي على
شكل ، فهُنا جاء بالاستفهام ، قال عزّ وجل ) مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ ( والقَرضُ المُعتاد أنّه يُعطَى ليُرَدّ ، فإذا كان المُعطَى
مَلِيء سبحانه ، ويُثَّمِر هذا العطاء ) مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ( فأَمَر الله - عزَّ وجل - ورغَّب في هذا العطاء بمثل هذا
الاستعطاف ، وهذا الاستفهام ، وأحالَهُ على أنَّه القَرضُ له سبحانه .
والله - عزّ َوجل - غنيّ عنّا يقول الله - عز ّوجل - في الحديث
القدسي :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : " إن الله تعالى يقول يوم القيامة : يا ابن آدم مرضت فلم
تعدني ، قال : يا رب ! كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟! قال : أمـا علمت أن عبدي
فلاناً مرض فلم تعده ، أمـا علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ؟! " .
إذاً
عندما يرضى الله لنا بأن نُقرِض الله - عزّ َوجل - هذا القَرض الحَسن - وخاصَّةً
كما قلت - مع الجِهاد ، وآيات القتال تحتاج إلى هذا المال ولذلك أفضل مصارف المال هو : الجهاد في سبيل الله ، ولذلك قال
الله ) مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ( وقال بعض أهل العلم :
إنَّ الحسنة بعشر أمثالها إلاّ في ( الصَّبر - وفي النَّفقة ) لأنَّها إلى سبعمائة ضِعف إلى أضعاف كثيرة ، وهذه الأضعاف بعضهم قال
بيّنها قول الله سبحانه وتعالى ) مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ
سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) ( فكأنَّ المضاعفة جمع بين هذه الآية وتلك .
ثمّ
بيَّن الله - عزَّ وجل - أنّه القابض والباسط فقال سبحانه وتعالى ) وَاللَّهُ يَقْبِضُ
وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) ( فهو القابض ، وهو الباسط ، والأمر من قبل ومن بعد بيده سبحانه
وتعالى وإليه تُرجعون .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق