تفسير الآيات من 246 - 253
تفسير الآيات من 246 - 253
ثمّ
جاءت القِصَّة ) أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( والمُرَاد بِالمَلأ : هم الأشراف ، والسَّادة
. فسُّمُوا ملأً :
•
لأنَّه تَمتلئ الصُّدورُ مهابةً لهم .
•
أو أنّهم يتَمَالئُون على الشَّيء فيُتِّمُوا ما
أرادوا .
) أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( ماذا صَنَع هؤلاء الـمَلأ
؟
وهؤلاء
جاءوا بِصَريح القُرآن ) مِنْ بَعْدِ مُوسَى ( . ) إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ
لَهُمُ ( أيّ اذكُر ذاك الوقت . ) إِذْ قَالُوا ( وتنكير النّبي هنا يدُل
على أنّه أيّ نبيّ ، لا يعنينا هذا ) إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ
لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( وهُم اعتادوا على أن يُقاتِلُوا مع المُلُوك . فقال لهم وهو يَعرف
هذا النَّبي حال بني إسرائيل من التَّردُد والعِصيان ، إذا كانُوا ترُّدُوا في
البقرة يذبَحُوها ، فكيف بأَمر الجهاد !!
وهذه
تُفَاد منها أيضاً للأُمّة ، حتى لا يَتردّد مُتردِّد في مثلها ، قال الله ) قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا
نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا
( فنحن نقُاتل لله ، وكذلك نقاتل لأجل هذه الدِّيار التِّي أُخرِجنا
منها ، فعندهم من الدَّافع ما هُو لله ، وما هُو لإخراجِهم من دُورِهم وبيُوتَاتهم
. قال الله ) فَلَمَّا كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (246) ( .
*************
) وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ( قيل سُمِّيَ طالُوت
لطُولِهِ . لكن هذا المَلِك الذِّي بُعِث تعجَّبُوا
لأنَّهم يعرفُون سُلالة المُلُوك ، وأيضاً من ليس عنده مال ، ليس من سُلالتهم
الذِّي يعتقدون أنّها فاضلة - ولذلك بالمناسبة كُنتُ
أقرأ في بَعض الفوائد المُستنبطة حتّى من بعض كُتُب الزَّيدية ، يرُّدُون على
الاثنا عشرية بهذه الآية ، يَقولون ليست المسألة وراثة في مسألة تَسَلسُل الاثنا
عشرية ، مع أنّ الرَّد والاستنباط من الزيدية ، وليس من أهل السُّنة في هذه الآية
لكن ذكرتُ لكم عَرَضاً - .
) قَالُوا أَنَّى يَكُونُ
لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ
سَعَةً مِنَ الْمَالِ ( طبعاً بني إسرائيل مُتعلِّقين بالمال ، يعني إمَّا السُلالة التي يعتقدُون فيها ، أو مَن يكون عنده مال .
فقال
) قَالَ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ( .
فبيَّن هذه الصِّفات :
•
أنّ الله اصطفاه أيّ اصطفاء الله - عزّ وجل - له .
•
وبَسطة في العلم وكثرة .
•
وبَسطة في الجسم .
والمَلِك
الذِّي تكُون عنده هذه المُؤهلات من قوةٍ ذهنية
وعقلية ، وسَلاَمة بدنية ، فكأنّه زكّاهُ بهذه التَّزكية . وبيَّن الله
أنّه يؤتِي مُلكَهُ من يشاء فقال الله ) وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) ( .
ومع
ذلك أيضاً حتّى يَطمئنُون - لأنّه كما قُلت – يَتعلَّقُون وعند بني إسرائيل من العِصيَان ، والتَّردُد ، والعِناد . ولذلك أكثر
الأُمم التِّي بُعِث فيها الأنبياء هُم بنو إسرائيل ، وكانوا بَعضهم يَفتَخِرون
بِذلك. قيل لأنّكم من أكثر الأمم عصيان ، من أكثر الأُمم عِناد فأكثر ما كان يُبعث
إليهم .
) وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ
مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ
الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) ( .
وقال
لهم نبيّهم أيضاً ومع هذا هناك علامة واضحة حتّى تَطمئنّوا إلى صدق هذا الرَّسُول
، وهذه العلامة الواضحة هو : ذاك التَّابوت الذِّي يُوضّع فيه شيء من بقيّة ممّا تَركَ
آلُ مُوسى ، وآلُ هارون . هذه البَّقية فيها السَّكينة ، فكانوا يأتُون
بالتّابوت فيه بقيّة من الألواح ، وعلى قول بعض الصّحابة ، وعلى الرِّوايات
الإسرائيلية رِيحٌ هَفهافة ، أو وجهٌ كوجه الهِرّ له جناحان . على كُلٍّ كُل هذه
إسرائيليات لا يَهُمُنّا
يهُمُنَّا أنَّ الله سبحانه وتعالى قال أنّ في هذا التّابوت سكينة من ربِّكم ، وفيه
بقيِّة آثار ممّا ترك آلُ موسى وآلُ هارون ، تَحمله الملائكة حتّى
تُصَّدِقُون ) إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) ( .
لمَّا
جاءَ لهُم بكُلّ هذه الآيات ، وهُو يَشعُر أنَّهُم أَهلُ عِناد ، وأَهلُ خصام
وتردُّد
) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ
بِالْجُنُودِ ( أراد أن يَختبر البقيّة الباقية . ) قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ
بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ
مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا
قَلِيلًا مِنْهُمْ ( يعني أنَّهم أيضاً مع التَّخلُف السَّابق ، تخلَّف أيضاً أولئك
الذِّين شَربُوا وكانوا قد عطِشُوا ، فأراد أن يختِبرهم بشربة الماء التِّي
يشربُون ، فإن تضَّلَعُوا من هذا الماء وارتووا ، حتّى يعرف أنّ هؤلاء لن يَصبروا
على ما سَيأتي من القِتال ، فجعل هذا علامة على نكُوصِهِم ) فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ
وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ
وَجُنُودِهِ ( .
) قَالَ الَّذِينَ
يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ ( قال هؤلاء القِلّة بثقة وعزيمة ) كَمْ مِنْ فِئَةٍ ( و ( كم ) تدُل على الكثرة
. وهذا وقع كثير ) كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ
غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا
صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ( انظُروا للبَقيِّة الصَّالحة التِّي صَبَرت ، ونجَحت في ذلك الاختبار
، طلبوا من الله - عز ّوجل - وانتَفُوا من حولهم وقوّتهم إلى قُوَّة الله وتَحويل
الله فقالوا : ) أَفْرِغْ عَلَيْنَا
صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) ( .
فقال
الله ) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ
اللَّهِ ( وهم قِلّة من قلة ، ولكن النّصر مع هذه القلّة ، والكثرة الكَاثرة
( الغُثاء ) هذا قد لا يُفيد ، قال الله ) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ
مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا ( فقال الله تعالى ) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ
اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ
وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ( .
وداود
عليه السّلام نبيّ ، وكان يُقاتل مع طالُوت ، ولمّا برزوا للقتال ، جالوت رأى نفسه
، فأخرجوا له داود ، وكأنَّه احتقر داود ، فتقاتَلا هو وإيَّاه وتبارزا فقتل داود
جالوت . لأنَّ البعض وهو يَقرأ الآيات يقول أين ذهب طالوت . فطالوت هو القَائد ،
ودَاود معه من المُقَاتِلِين .
) وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ( قانون المُدافعة في مسألة
القتال ، يعني لولا التَّدافع بين الحَقّ والبَاطل ، وكَون الحقّ يَدفَع بهذا
القتال لَفَسدت الأرض ) لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ
وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) ( .
ثمّ
قال الله - عزّ وجل - ) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ
نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) ( .
بعد أن ذَكَرَ الله - عز ّوجل - جُملة مِن قَصَص بني إسرائيل
وخاصَّةً قِصَّة مُوسى من قبل ، ومن بعدَ موسى من الأنبياء داود وغيره ، قال الله
- عزّ َوجَل - :
) تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( قد يكون إشكال في مسألة التفضيل فالتّفضيل
ليسَ في الرِّسالة ، إنَّما في المَزِّيات التِّي مُيَّزَ بها كُلُّ نبيّ ،
لأنَّ ظاهر القرآن قال الله تعالى ) مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ
اللَّهُ ( والتّفضيل بخاصّة لا ينبغي ، فالمنهج
ألا نقول محمّد صلى الله عليه وسلّم أفضل من موسى عليه السَّلام ، ولكن محمد صلى
الله عليه وسلّم سيِّد ولد آدم ، نعم .
ولذلك
النَّبي صلى الله عليه وسلّم نَهَى فقال ( لا تُفضِّلوني على موسى )
ونَهَى عن تفضيله عن موسى بن متّى بقوله ( لا تُفضِّلُوني على يُونُس بن متّى ) نهى بِمُعيِّن . لكن أن نقول نبيّ ، وهو أفضل
الأنبياء ، وسيّد ولد آدم ، نعم . لكن أن يكون هناك التّعيين ، فلا ، والله - عز
ّوجل - بيّن أنَّ هذا الفَضل فقال ) تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( بيِّن هذا التَّفضيل ، وبيّن في عيسى عليه السّلام ) مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ
اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ( قال سبحانه وتعالى ) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) ( .
وهُنَا نعود إلى مسألة البيِّنات
، يعني بعض الأحيان الذِّين يتعلَّمُون العلم لأجل
الله - عزَّ وجل - لا يكون عندهم اختلاف ، من صَدَقَ في تَعلُّمه ، وأَخذِهِ لهذا
العِلم لا يَبغي على أَحد ، لكن من يأتي لهذا العلم لأجل أن يَبغي .
ولذلك
قال الله ) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا ( فليست هذه البيّنات
سَبباً في الاقتتال ، إنَّما السَّبب أنَّ نيَّاتهم فَاسِدة في مجيئهم ، وأخذهم
لهذه البيِّنات ، وأخذوا هذه البيِّنات لِيَبغي بعضُهم
على بعض . وجاء أيضاً في سورة آل عمران ) وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ( تفرَّقُوا واختلفوا لأنَّهم تعلَّمُوا العلم لأجل البَغِي
والطُّغيُان ، والعلم قد يبغي بالإنسان وقد يَجِد نفسه في ذلك ، ولذلك أهل الحَقّ أهل اتّفاق ، وأهل البَغي أهل فُرقَةٍ وشِقاق .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق