) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( .
قال ذلك سبحانه وتعالى مادحاً للمؤمنين بربهم ، المطيعين أمره ,
المُؤدِّين شكره , المحسنين إلى خلقه , بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، مُخبراً
عمّا أعدّ لهم من الكرامة , وأنّهم يوم القيامة من التبِعات آمنون .
ثم
قال الله عز وجل : ) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا (
أي خافوا الله عز وجل وراقبوه فيما تفعلون ) وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا (
أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال بعد هذا الإنذار ) إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (
وانظروا بداية الآية ، وخاتمة الآية .
لن يترك أحدٌ يا إخواني الربا إلا
لإيمانه
, لماذا ؟! لأنّه لو كان هناك شيء غير الإيمان لدعا الله عز وجل به عباده , قال : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ (
دعاهم بماذا ؟! بالإيمان , وختم الآية بقوله : ) إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (
لأنّ النَّفس قد جُبلت على الجشع , جُبلت على حُبّ المال , والله لن يدع الربا أحد إلا من اجل إيمانه وخوفه من عقاب الله
, وإلا الربا من أسهل ما يكون , تجعل المال في البنك وتأتيك زيادة مضمونة , خسر
البنك , زاد , ما عليك منه , لكن لن يدع الربا إلا من
دعاه إيمانه لترك الربا , ولذلك
فُتحت الآية بالدعوة إلى الإيمان بصفة الإيمان وخُتمت كذلك به .
) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( كما
قال ابن عباس : ( يقال لآكل الربا يوم القيامة خذ سلاحك للحرب )
المسألة حرب , من يقدر على محاربة الله ورسوله , ثم قال الله عز وجل ) وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ
لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (
، ) فَأْذَنُوا (
أيّ فاعلموا , فالأذان الإعلام , ولذلك قال الأذان الإعلام بوقت الصلاة .
) فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ
وَلَا تُظْلَمُونَ ( هذه مسألة يا إخواني , إذا تاب الإنسان من
الربا, قال الله : ) فَلَكُمْ
رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ (
ما هو رأس المال ؟! يعني الإنسان بدأ الرِّبا ومعه عشرة آلاف ريال , وتاب وعنده
مليون , وباقي عند الناس أموال , له العشرة ولا المليون ؟! العشرة , هذا قول
جماهير أهل العلم , أنَّ رأس المال قبل الربا ) فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ (
أي قبل الربا , ركِزّوا معي في هذه المسألة لأنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
أدرج هذه الآية في كتابه " تفسير آيات أشكلت على
العلماء " وجعلها من الآيات المُشكِلة وقال إن الصواب ما ذكر , إذاً
أنتم تقولون أنّ رأس المال هو العشرة أي ما قبل الربا , شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله له رأي آخر , يقول : ( أنّ رأس المال ما كان قبل
التوبة ) .
ما
الفرق بين القولين ؟! فرق كبير , بمعنى أنَّ الرَّجل الذي بدأ الربا عنده عشرة
آلاف ، وتاب وعنده مليون , رأس ماله على قول شيخ الإسلام مليون , وعلى القول الآخر عشرة آلاف , الله قال ) فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ (
وهذا هو اختيار شيخ الإسلام , اختاره لماذا ؟!
يقول شيخ الإسلام رحمه الله : ( ومن
تدبّر أُصُول الشرع عَلِمَ أنَّه يَتلطّف بالناس في التوبة بكل طريق )
إذا جئت للمُرابي ضعُف إيمانه ورابى , ثم جئت إليه وقلت تبّ إلى الله وعنده قصر
وعنده خير , وهو يريد أن يتوب ، الله زرع في قلبه التوبة , ثمّ قلت له ارجع إلى
الصِّفر ! , فإنّ هذا مّما يُعين الشيطان عليه , لكن نحن نريد ماذا ؟!
يقول شيخ الإسلام : ( ومن
تدبّر أصول الشرع علِمَ أنّه يتلطّف بالناس في التوبة بكل طريق ) , ولذلك
استدلّ شيخ الإسلام بادلّه كثيرة ، أي ليس هذا فقط ، ارجعوا إلى الكتاب المًشار
إليه " تفسير آيات أشكلت على العلماء "
لكن حال الرسول صلى الله عليه وسلم لمّا وضع الربا ما أمر النَّاس بردّ الزيادة ,
وضع الربا وسكتّ عمّا أخذوه . وهذا والله أعلم هو
الصَّواب خاصّةً في زماننا الذِّي تعقدّت فيه المعاملات المالية .
الآن
نرى - بفضل الله - تحوّل كثير من البنوك حتى في السعودية إلى المعاملات الإسلامية
, فعلى هذا القول يُشجعهم ويُعينهم خاصّة وأنّ الآية تحتمل هذا الكلام , والنُّصوص
الشَّرعية كذلك تؤيّد هذا الكلام , النبي صلى الله عليه وسلم ما أمرهم بردّ
الزيادة منذ أن رابى , ولذلك الأقرب والله تبارك
وتعالى أعلم ، والعلم عند الله سبحانه وتعالى أنّ رأس المال هو ما كان قبل التوبة
.
لكن
إنسان دخل في معاملة واستلم المليون وعنده قضايا ربوية خمس مئة ألف مثلاً يأخذها
؟! لا يجوز ، خلاص يضعها خلاص ما يجوز , التوبة من الربا تتوب عمّا بقِي , والله
عز وجل يتولّى أمرك فيما سلف , وعندنا نصوص شرعية أنّ الله يُبدّل الحسنات سيئات ،
ويُدعى التائب بكثرة الصدقة لعلّ الله عز وجل أن يتقبّل توبته , لكن في أحكام
الدنيا هذا هو المراد .
الله
عز وجل قال : ) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى
مَيْسَرَةٍ ( لمّا وضع الله عز وجل الربا وطالب برأس
المال , في أُناس حتى ما يستطيعون ولا ردّ رأس المال وإلا لا ؟! فقال الله عز وجل
: ) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى
مَيْسَرَةٍ (
العُسرة هي ضيق الحال من جهة عدم المال ومنه جيش العسرة .
) فَنَظِرَةٌ (
أي تأخير ) إِلَى مَيْسَرَةٍ (
ثم دعاهم الله عز وجل إلى قوله : ) وَأَنْ
تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (
فهذه الآية اشتملت على أمرين :
الأمر الأول : الإنظار ,
إنظار المُعسِر وهذا واجب , يجب على كل من داين إنساناً مُعسراً أن يُنظره وقد ورد
في الأحاديث الصحيحة على فضيلة الإنظار .
منها
ما جاء في الصحيح أنّ
أبا قتادة كان له دينٌ على رجل وكان يأتيه يتقاضاه فيختبئ منه , فجاء ذات يوم فخرج
صبيّ فسأل عنه
فقال نعم ، هو في البيت .
فناداه قال يا فلان أُخرج فقد أُخبرت أنّك ها هنا فخرج إليه .
فقال : ما يُغيّبك عنّي ؟!
- بعض الأطفال أبوه يقوله قل لهم ما هو في البيت ، فيأتي بالعبارة كاملة فيفضح
والده ، فهذا الصبي فضح والده أخبره أنّه في البيت - .
فقال : أنا مُعسِر ، وليس عندي .
قال له أبا قتادة :
آلله ، إنّك مُعسر - يعني استصعب على نفسه - أبا
قتادة يُلاحق مُعسِراً .
قال : نعم . فبكى أبا قتادة رضي الله عنه ثم قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : من نفّس عن غريمه أو محا
عنه كان في ظلّ العرش يوم القيامة
.
فالإنظار
يا إخواني واجب لكنّ الله دعانا إلى ما هو أفضل من الإنظار , في الآية قال : ) وَأَنْ تَصَدَّقُوا (
معناها تضعُوها عنه , أنت مُعسِر والله موسّع عليك , ولذلك أنا أستغرب من بعض
أصحاب العقارات الهائلة الذين يُخرجون شاب فقير مسكين من بيته إذا عليه إيجار ,
تجد عنده عشر عمائر وعنده في العشر عمائر أربعين شقّة ، وفي الشقة هذه فقير ،
ويدفع مرة ومرة ما يستطيع أن يدفع هذا الفقير إيجار البيت ، فيأتي صاحب العمارة
بالشرطة ليُخرِج هذا الفقير من البيت , يا أخي هذا مُعسِر ، اصبر عليه , الله أنعم
عليك بهذه النعم العظيمة , الله يقول ) وَأَنْ
تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ( ولذلك الصَّدقة سنّة
أمّا الإنظار واجب , فيجب عليك أن تُنظره إلى
ميسرة .
وبقاء
الحال من المُحال , إن شاء الله سيُغنيه ربّه عز وجل .
ثم
قال الله عزّ وجل واعظاً عباده مُذكراً بزوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال
وغيره وإتيان الآخرة ) وَاتَّقُوا
يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا
كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (
يقول الله أنا أخبرتكم بحرمة الرّبا ، أخبرتكم بالصدقة أخبرتكم بكذا .
لكن سيأتي يوم , وهو يوم الحصاد
"
) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى
اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( .
الله حَكَمٌ عَدل
*
كُل ما ضاقت بك الدُّنيا تذكر أنّ الله لا يظلم أحداً
.
*
كل ما همّت نفسك بسوء تذكر أنّها ستُوفّى كل نفسٍ ما
كسبت يوم القيامة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق