تفسير الآيات 188 - 189
قال الله عزّ وجل : ) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( [1] .
ما علاقة هذه الآيات بآية الصِّيام ؟ علاقتُها - سلَّمكم الله - أنَّ الحُكم هُنا داخل في المحظورات فهو لَمَّا ارتقت النُّفوس بالتَّقوى صَفَّها هُنا بالنَّهي عن الأكل ولذلك عَبَّر بالأكل هنا أكل الأموال ، وليس المقصود الأكل هو الأكل المباشر ، وإنّما عبّر بالأكل لأنّه أكثر المنافع في الأموال ، والمصالح المتعلّقة به هو الأكل ، فبدونه تنتفي وتقلّ منافع الإنسان من المال لأنّه أعظم منفعة في المال هو حصول الأكل منه . فهذه الآية تشتمل على قاعدة وأصل من أصول الدّين وهو حفظ الأموال والحقوق والمنع من الظّلم فيها والتعدّي وهذا كما ذكره ابن القيّم رحمه الله . [2]
ويدخل في هذه الآية - انظروا يا إخواني كيف بركة هذا القرآن وكيف أنّه أصول ويدخل في هذا القمار والخداع والغصب وجحد الحقائق بما يشملها وما لا تطيب به نفس مالكه أو حرّمته الشّريعة وإن طابت به نفس مالكه كمهر البغي ، وحلوان الكاهن ، وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك كلُّه داخِلٌ في هذه الآية العجيبة لأنّه قال : ) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ( فيدخل فيها كل أكل للمال بالباطل ربا ، وقمار ، وبيع وشراء محرّم إلى غير ذلك ، فلهذا قلنا لكم أنّها أصلٌ من أُصول الدّين في الأموال . قال تعالى : ) وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ( المقصود بها هُنا ماذا ؟ الحِيلة ، فاتخاذ المال وسيلة وحِيلة للحرام ولأكل أموال النّاس بالباطل ، فهذه الآية أصلٌ في تَحريم الحِيل ، والوَسائل المؤدّية للحرام ، وإنّما خصّها لأنّها من عمل من ؟ اليَهُود ، فالله تعالى أبطلها - كما ذكرتُ لكم هنا - الأحكام في إبطال وإزالة ما جعله وأضافه وحرَّفه اليهود والمشركون .
ثمّ قال الله - عزّ وجل - : ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ( [3] هذه الآية إلى قوله : ) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ( كُلُّها تهيئةٌ للحجّ . فلَّعلَّنا نختصِرُ الحديث عنها لندخل في الحديث عن الحج .
أوّلاً : قال : ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ( يعني الصَّحابة - رضوان الله عليهم - سألوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم أوّ في رواية أنّ السّائل هنا المشركون ، فكأنّهم أرادوا أن يُعجِزوا النّبي صلى الله عليه وسلّم أو أن يُريدوا أن يسألوا ما يسألوا والله أعلم هل السّائل هنا هو الصَّحابة أو المشركين كُلُّ ذلك في روايات . [4]
لكن سَألوا عن الأهلة لماذا هي تبدو صغيرة ثمّ تكبُر فالله عزّ وجل صَرَفهم عن ذلك إلى ما هو أَهم وهو مقصود الأَهلّة وهو قوله عزّ وجل : ) قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ( لم يُجبهم على سؤالهم أجابهم على الحكمة ، ولو أجابهم عن سؤالهم قال إنّها تبدو لأنّها كذا ، ثمّ تكبُر لأنها كذا ، ثم تصغُر لأنّها كذا ، وفصَّل في بيـان أحوالها لكنّه انتقل إلى الحكمة ، وهذا يجعلنا نقول أنّ الشريعة تعتني بالحِكَم لا تعتني بالمظاهر فقط والأمور النَّظرية الذّي لا طائلَ ورائها ولا عمل تتضمنّه .
قال الله عزّ وجل : ) قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ( هذه الآية هي أصلٌ من أُصول الدِّين فيها بيان أصل من أصول الدِّين في إقامة نِظام أحكام الشَّريعة على المواقيت ، وبِنائِها عَلى الأهلّة ، تمهيداً لِمَا سيأتي من ذكر الحج ، وفيه إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من الخَلل في إحرام الحج ، وإبطال المظاهر التعبُّدّية والتَّصُورات الجاهلية المنافية لحكمة التشريع .
لكن هُنا سؤال جميل ومُهِم : مَا عَلاقة الأهلة بالتشريع ؟ لماذا الله ربط الأهلة بالتَّشريع في الصِّيام في الحج ، وربط الصّلاة بالأوقات الشَّمس وغيرها لماذا ؟
هنا مسألةٌ عظيمةٌ نفيسةٌ يجب أن ننظُرها في كثير من الأحكام الشَّرعية ، ربط الآيات الشّرعية بالآيات الكونية للدَّلالة على وَحدانية مُوجِدِها - سبحانه وتعالى - ومُشَّرعها ، يعني هذا التَّشريع رُبِط بالأهلّة ورُبطَ بالشَّمس للدلالة على أنّ خالق الكون هو المُشَّرع الواحد سبحانه وتعالى لا يأتي أحد فيُشَّرِع ما شاء فخالق الكون هو الذّي يُدَّبر الأمر ، آية في كتاب الله تدل على ذلك قال الله عزّ وجل : ) وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ ( [5] وَتفصيل الآيات هنا يدخُل فيها تفصيل الآيات الشَّرعية ) لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ( ، فهنا ملحظٌ مهمٌ جِدّاً في ربط الآيات الشَّرعية بالكونية للدَّلالة على أنّ مُسيِّر الكون هو مسيِّر الشَّرع وحده سبحانه وتعالى .
ما مُناسبة ذكر تخصيص الحجّ هنا ) قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ ( يدخل فيها الحج ، لكن لماذا ذكر الحجّ ؟ انظروا إلى التّرتيب البديع هُنا بعد آيات الصيام ، بعد انتهاء الصيام ماذا يأتي شوّال ، فيأتي هلال شوال الذِّي به نهاية رمضان وبداية أشهر الحج لاحِظُوا ، فجاءت آياتُ الأهلة هنا بعد الصيام مباشرة إشارةً إلى هلال شوال للدَّلالة على أنّ أشهر الحج تدخُل بهلال شوال ، فأشهر الحج شوّال وذو القعدة وذو الحجّة . فتأمَّلوا هذا أيّها الإخوة في ذكر تخصيص الحجّ هنا في الآية .
قال الله عزّ وجل : ) وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ( ما مناسبة هذه للمواقيت ؟ مُناسبُتها أنَّ هذه الجملة أيُّها الإخوة تدلُّ على إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من اعتقادٍ باطل في الإحرام وهو ما دلّ عليه سبب النزول وما أخرجه البخاري بسنده عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : " كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أَتوا البُيوت من ظُهورها " ولا يدخلون الباب - لماذا ؟ - لئلا يُغطِّيهم السَّقف ، اعتقاداً منهم أنّه بتجرّد الإنسان من المخيط ، وتجرُّد شعره ، وانكشاف شعره ، لا يُغطّيه عن السَّماء شيء فكانوا يعتقدون أنّ الإنسان ما دام محرِماً لا يُغطّيه حاجب ولا جدار فلذلك لا يدخلون البيوت من أبوابها " فأنزل الله : ) وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ( " [6] .
ليست المسألة بالمظاهر ، ولذلك ما نراه مما يفعله الرَّافضة من بدعٍ ظَاهرة اليوم أنّهم يكشفون بعض باصاتهم وأتوبيساتهم زعماً أنّ هذا تعبُّداً وتقُرَّباً هذا بدعةٌ وضلالٌ في الدِّين ، ولهذا قال الله : ) وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ( أي أطاع الله كما أمَرَ الله وآمن وصَدَّق وامتثل بما أمر الله تعالى قال الله : ) وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ( وهذه قاعدةٌ من قواعِدِ الدِّين عامّة ليس المقصود هنا الأبواب فقط أبواب البُيوت .
كما ذَكَرَ السِّعدي - رحمه الله - ذكر لفتة جميلة مهمّة في قوله : ) وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ( أنَّ هذا قاعدة في الدّين أنّ الإنسان يأتي الشيء من بابه يعني ما يذهب يتحايل على الشّيء ولا يذهب يمين ويسار ، ائتي الأمر من بابه . [7]
وهذه قاعدة يقولها النّاس ) وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ( فهي قاعدة في مشروعية إتيان الأمور على وجهها المعروف ، حتى لا يُظنّ بالإنسان ريبة أو شيء من ذلك ، فما أعظم هذه الدَّلالة ، وأيضاً تدُلّ هذه الآية على ترك الغُلوّ ، والتشّدد والابتداع في الدِّين ، وهـذا أصلٌ من أصول الدِّيـن ومقصد من مقاصد الإسلام قال فيه النّبي صلى الله عليه وسلم : « يسِّروا ولا تُعسِّروا » [8] ، « وما خُيِّر النبي صلى الله عليه وسلّم بين أمرين إلا اختار أيسرهُما ما لم يكن إثماً » . [9]
[1]
سورة البقرة 188 .
[2]
إعلام الموقعين .
[3]
سورة البقرة 189 .
[4]
تفسير الطبري .
[5]
سورة الرعد 2 .
[6]
رقم 4512 كتاب التفسير ، باب { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
[7]
تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن .
[8]
البخاري رقم 69 كتاب العلم ، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم
يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا ، ومسلم رقم 1732 كتاب الجهاد والسير ، باب في
الأمر بالتيسير وترك التنفير .
[9]
البخاري رقم 6786 كتاب الحدود ، باب إقامة الحدود ، والانتقام لحرمات
الله ، ومسلم رقم 2327 كتاب الفضائل ، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للأثام ، واختياره
من المباح أسهله ، وانتقامه لله عند انتهاك حرماته .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق