تفسير الآيات من 197 - 199
ثمّ انتقل الحديث أيّها الأحبّة إلى الحج :
هنا أحكام العمرة انتهت , أتى الحجّ فابتدأ بقوله : ) الْحَجُّ ( هذا الحجّ , أحكامه ما سيأتي , قال الله تعالى : ) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ( [1] وأشهر الحج ما هي ؟! شوال وذو القعدة وذو الحجة , قال بعضهم : عشر ذو الحجة أو إلى أيام التشريق , ولكن الصحيح هي ثلاثة بكمالها لأنّ أعمال الحجّ لمن لم يقضي بعض الواجبات يقضيها إلى نهاية ذو الحجة , يعني من لم يقضي بعض الرمي مثلا ًما استطاع مُرِض ، فله أن يقضي بعد أيام التشريق الرمي حتى ولو في نهاية شهر ذي الحجة , إذاً قال : ) أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ( لماذا قال : ) أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ( ؟! لأنّ المشركين قد أخلُّوا بها فهي معلومةٌ من أصل دين إبراهيم فهي أشهرٌ معلومات , أمّا المشركون فقد جاؤوا وأحدثوا وغيّروا فقد قدَّمُوا وكانوا يُؤخّرون شهراً ويُقدّمُون شهراً حسب أهوائهم كما قال تعالى : ) إِنَّمَا النَّسِيءُ ( في الأشهر ) زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ( [2] في سورة التوبة , فأقرّها الله عزّ وجل - هنا - كما أقرّها وقت إبراهيم فرجع الحجّ على ما كان عليه وقت إبراهيم , قال الله عز وجل : ) فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ( ما معنى فرض ؟! نوى أو أحرم , اختلاف بين العلماء هي التلبية أو الإحرام , والتلبية داخلة في الإحرام ) فَمَنْ فَرَضَ ( يعني دخل في الإحرام وهذا يُؤكدّ ما ذكرتُه لكم بأنّه من دخل في الحج لَزِمَه إِتمامَه لأنّه فرض يعني فرضّ على نفسه دخوله , قال : ) فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ( لماذا هنا أعاد لفظ الحج ؟! لاحظوا أعاد لفظ الحجّ ( ثلاث مرات )
) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ( مع أنّه لو قال الحجّ أشهرٌ معلومات فإذا فرضتُ فيهنّ الحجّ مثلاً أو فرضتُ فيهنّ الإحرام فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فيه , لكن هنا ملحظ وهو أنّ المقصود في كل لفظ معنى , فالمقصود في قوله : ) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ( هنا لإثبات فريضة الحج لإثبات أشهر الحجّ أو بداية الحجّ , ) فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ( في أعمال الحج ) فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ( في محظورات الحجّ , أرأيتم كيف في كل لفظ يُؤكدّ على أنّه يُراد به معنى والله أعلم .
قال الله تعالى : ) فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ( هذه الكلمات الثلاث يا إخواني اشتملت على جميع محظورات الإحرام , فالرفث يدخل فيه معنيان :
أولاً : يدخل فيه الرفثّ في الحجّ أصلاً , يعني يدخل فيه الرفثّ بالجماع الذي هو الأصل في كلمة الرفثّ , ويدخل فيه غير الجماع , لأنّه قال في آيات الصيام : ) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ( [3] فدلّ على أنّ هناك رفث إلى غير النساء وهو الكلام القبيح والفاحش وغير ذلك , ولو كان المقصود هنا النساء لقال فلا رفثَ إلى النساء , فلمّا أطلقه دلّ على دخول الجماع ابتداءً الذي هو من أعظم محظورات الحجّ والذي به يبطُل الحج ويستوجب بدنة وحجاً من العام المُقبل , هو المحظور الأعظم الذي به يفسد الحج ويوجب بدنة ويوجب أداء الحج في العام الذي بعده , أقول هنا قوله تعالى : ) فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ( . تتضمنّ غرضين مهمين :
الأول : هو بيان ما يُنافي حقيقة الحجّ وصحته وأدائه , وهي هذه الأمور الثلاثة ولزوم اجتنابها وهذا الغرض دالّ على المحظورات الخاصّة بالحج من هذه الأمور الثلاثة , وهي بالنسبة للرفث الجماع لأنّه من محظورات الإحرام ودواعيه كذلك لأنّها محظورات ومحظورة على المُحرم , وبالنسبة للفسوق هي المحظورات الأخرى ما هي ؟! قتل الصيد , حلق الرأس , ولبس الثياب والطيب , هذه بالنسبة للحج , وبالنسبة للجدال في ما يتعلق بالحج , الجدال في وقت الحجّ وموضعه وأعماله بعد أن أقرّها الله تعالى وبيّنها , هذه المحظورات مُتعلّقة بصحة أداء الحجّ , هناك بيان كمال الحجّ , في هذا الآية بيان ما ينافي كمال الحج وإتمامه من هذه الأمور الثلاثة , وهي بالنسبة للرفث الفحش واللغو في الكلام هو ليس محظور مُتعلّق بالحجّ عليه فدية , وإنّما هو محظور يُنقص الأجر فهذا ما يُنافي الكمال , الرفث يدخل فيه الفُحش واللغو في الكلام , والفسوق المعاصي كلّها الدخان ، والسبّ ، والشتام ، والغيبة ، والنميمة وغير ذلك , وبالنسبة للجدال يدخل فيه الخصومات والمِراء المؤدّي إلى النزاع والفرقة , هذه كلّها مُنافية لكمال الحجّ , ويُؤكدّ ذلك أيّها الأحبّة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أكدّ على ذلك بقوله : « من حجّ فلم يرفث ولم يفسق - فدخل في ذلك الرفث المُتعلّق بالحجّ وغيره أو في غير أعمال الحجّ والفسوق كذلك ومنه المعاصي - رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه » [4] . وهذا نأخذ منه أنّ الأجر المُترّتب هنا والله أعلم مُترتّب على من حقّق الأمرين , حقّق أو ترك هذه الأمور المتعلّقة بالحجّ والأمور المُكمّلة المُنافية للكمال , فحقيقة هذا ملحظٌ مهم في الحجّ , لأنّ بعض الناس يا إخواني أهمّ شي عنده لا يأتي محظور في الحجّ , فلا يقصّ شعره , ولا يُغطّي رأسه , ولا يلبس مَخِيط . لكن ليس عنده بأس أن يسبّ ويلعن ويشتم ويُدخِن ويترك الصلاة , سبحان الله ، لماذا ؟! لأنّ تلك عُلّق عليها عقوبة أو فدية , أمّا هذا عُلّق عليها إثم , ولا شكّ أنّها أعظم , فهذه في الحقيقة نقص في فهم النصوص وأداء الفريضة , إخواني الكرام يجب أن نُدرك ذلك وأن نعرف أنّ كمال الحج وكمال أجره يحصل بالأمرين جميعاً .
بل الأمر الثاني أقرب وأهمّ من حيث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من حجّ فلم يرفث ولم يفسق - عموماً - رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه » وهذا معنى ما سُئل عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم ما برّ الحج ؟! قال : « إطعام الطعام وطيب الكلام » [5] . يعني الكمال انظروا من أتى بالكماليات هذه لا شكّ أنّه آتٍ بما هُو دونها, طيب لماذا قال: ) وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ( تخصيص الجدال في الحجّ لماذا ؟! لأنّه - سلّمكم الله - كأنّ هذا قطعٌ لما كان عليه المشركون فلا سبيل لهم بعد ذلك للجدال , كأنّه قال انتهى وأقُرّ ما أقرّه الله تعالى في أشهر الحجّ فلا تُجادلوا المشركين , خُذوا ما أمركم الله .
وأيضاً يا إخواني الكرام فإنّ الجدال في الحجّ أنتم ترونَه ظاهراً بسبب اختلاف الأوضاع بمعنى يأتي الإنسان إلى بلد غير بلده , غير مستقِرّ , ما فيه سكن مريح , فيه بعض الأشياء الناقصة عليه , فتُسبِّب إشكال بين الناس فيتنازعون في المسكن , يتنازعون في المكان , في المطعم في المشرب في الذهاب في المجيء , أمر غير مستقرّ أمر سفر فهو في مظنّة الجِدال والشقاق , فانظروا إلى تخصيصه هنا لأنّه أكدّ الله تعالى عليه , فينبغي يا إخواني التنبُّؤ لهذا , قال الله تعالى : ) وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ( ما فائدة هذه الجملة ؟!
فائدة هذه الجملة إخواني أنّ الله يُحفّز النفوس المؤمنة إلى أن تُسابق إلى فعل الخير ) وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ( يعني في هذا الحجّ اغتنموه في فعل الطاعات , ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في برّ الحج : « إطعام الطعام » .
ففِعل الحقيقة ما أمكن من السُّنن والنَّوافل ، وقراءة القرآن ، والذِّكر ، وإقامة ذكر الله ، والصدقة وغير ذلك كلّه ممّا هو داخلٌ في هذه الآية , أرأيتم لو أنّ الإنسان قام بهذه الصفات كلّها لاشكّ انّه أدّى حجاً كاملاً يُرجى أن يكون فيه أجره كاملاً بإذن الله , ثمّ قال الله عز وجل : ) وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ( هذه الجملة شاملة لمعنيين :
المعنى الأول : تزودّوا من الخير والطّاعة , ولذلك قال : ) فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ( أول ما ينبغي أن يتزوّد منه الإنسان هو طاعة الله ، خصوصاً هو ذاهب قاصد للحجّ قاصد لوجه الله عز وجل يجب أن يتفرغ ويتزوّد من الطاعات , وللأسف الشديد نجد بعض الناس ينشغل بالأحاديث وبالسَّمَر مع أصحابه وغير ذلك , يعني يقضي وقته بغير ذكر الله , لا يُؤدّي إلا الواجبات فقط , رميَ الجمار ، والطواف ، والسعي ، والذهاب لعرفة ومزدلفة وانتهى , لا قال الله عز وجل : ) وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ( وإنّما خصّ التقوى , انظروا كيف عقد هنا الحجّ بالتقوى بل نظَمه بعقد التقوى الذي نظَم في السورة كلّها ) وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ( والحجّ يحتاج إلى تقوى باجتناب المحظورات وفعل المأمورات فكلّ ذلك داخل في التقوى , ولهذا قال : ) يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ( ذو العقول التي تُريد الكمال تُريد امتثال أمر الله عز وجل .
ثم قال الله : ) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ( [6] هذه الآية واردة في ماذا ؟! هذه الآية واردة في إباحة التجارة في الحج , ) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ( لكن لماذا قال : ) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ( ولم يقل : وابتغوا من فضل الله في الحجّ ؟! لأنّه - سلّمكم الله - كانت أسواق العرب قائمة مِجنَّة ، وعكاظ وغيرها كانت قائمة , بل مواسم التجارة عند العرب هي في الحجّ , قبل الحجّ وبعد الحجّ , مواسم التجارة عند العرب قبل الحجّ إلى يوم ثمانية موزّعه على أيام , وبعد الحجّ كذلك , فكانوا يُقيمون فيها البيع والشراء ويتنافسون فيها بأبيات الشعر والقصائد وذكر آبائهم وأجدادهم وغير ذلك , كأنّ المسلمون هُنا تحرّجوا من أن يُخالطوا الكفار في أسواقهم وهم أتوا إلى الحجّ , هم يُريدون وجه الله فكيف يَغشَوَن أسواق الكافرين ؟!
لكنّ الله عز وجل بحكمته وبعظيم شرعه أباح لهم البيع والشراء , لماذا ؟! لئلّا يكون المسلمون في ضعف من أمرهم ومالهم وتزودّهم فيكون للكافرين عليهم منّة وفضل , فأباح التجارة بالحجّ ليتزودّوا فيها ، وليكون لهم عزّة وقوّة ، ووجود في التجارة , وهذه الآية دالّة على مشروعية التجارة في الإسلام لاحظوا مع أنّها في آيات الحجّ إلاّ أنّها دالّه على مشروعية التجارة من حيث أنّ الله تعالى شرع التجارة في وقت فريضة , وقت أداء فرائض وقت الحجّ , وإن كان ليس في أيام الحجّ نفسها لكن قبلها وبعدها , فدلّ ذلك على مشروعية التجارة في الإسلام لتكون للمسلمين قوّة واقتصاد , هذا من رعاية الله للبلد المسلم أو للأمّة المسلمة , للدولة المسلمة , ألسنا نقول كثيراً أنّ هذه السورة في إعداد الأمّة ، وتقويتها وتمكينها وإعدادها , هذا من إعدادها , فالله عز وجل قال : ) أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ( .
ولهذا أخذ بعض العلماء من هذه جواز أنّ الإنسان إذا ذهب للحجّ أن يُتاجر , وأخذوا منه أنّه يجوز للإنسان أن يعقد الحجّ عن غيره ويأخذ على ذلك دراهم , الذّي هو الحج بالإنابة , لكن حرمّوا على من قصد بحجّه المال , من كان قصده بالحجّ ذاته المال فلا يجوز له أن يأخذ هذا المال , لكن لو قال أنا حاجّ لكن هذه السنة لن أَحُجّ عن نفسي سأغتنم هناك فضائل الأيام والأوقات بالذكر والطاعة وأحُجّ عن غيري , قال الله بعد ذلك : ) فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ( لماذا لم يذكر عرفات أصلاً قال : ) فَإِذَا أَفَضْتُمْ ( يعني رجعتم , فالإفاضة هي الذهاب أو المنطلق بكثرة وسَعة , وهذا واضح في إفاضة الحجّ سيلان الماء بكثرة وسَعة , لماذا لم يذكر عرفة ؟! لأنّ السِّياق كما قلت لكم في إبطال ما كان عليه الجاهلية وأمّا ما كان أصله مستقرّا على الحجّ الذي كان عليه إبراهيم فلم يذكره الله هنا , فلذلك لم يذكر عرفة مع أنّ عرفة هي الحج « الحج عرفة » [7] كما قال النبي صلى الله عليه وسلم , فبعض الناس يقرأ يقول أين عرفة ، لماذا لم يذكرها الله ؟! ذكرها الله عز وجل وأقرّها على ما كان عليه إبراهيم , وإنّما ذكر ) فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ( لماذا ؟! لأنّ المشركين لم يكونوا يُفيضون من عرفات , كانوا يفيضون من مزدلفة لأنّهم كانوا كما يُسمّون أنفسهم بالحُمُس ، كانوا يخصّون أنفسهم بغير العرب , يقولون نحن لا نخرج من الحرم نحن أهل الحرم نبقى في أدنى الحرم في مزدلفة , أمّا غيرنا فيخرج , فلمّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم على ما كان عليه إبراهيم عليه السلام . [8]
فقال الله هنا : ) فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ( .
أيّها الإخوة في هذه الآية في الجملة عدة أحكام ودلالات :
منها
وجوب الإفاضة من عرفة بعد زوال الشمس لها دلالة عليها لأنّه قال : ) فَاذْكُرُوا اللَّهَ
عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ( والمشعر الحرام إنّما يجوز الإفاضة إليه بعد غروب الشمس لأنّه ذكر
لله تعالى فيه , ما يُشرع من الذكر .
لماذا قال الله عرفات ولم يقل عرفة ؟! ) فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ
عَرَفَاتٍ ( من يستطيع أن يأتي لنا بالسبب ؟ الدليل ؟! للدلالة على المكان لا
على اليوم ، كأنّ هذا إشارة إلى الاسم الأصلي في عرفات , عرفة أنّه عرفات .
وإنّما سُمّي عرفات لأمرين : ذكرهما بعضهم وهي روايات :
*
قيل : لأنّ جبريل عرّف فيها إبراهيم بمواضع الحجّ
, ولماّ أتى عرفة قال : عرفت الآن ؟! قال : عرفت .
*
وقيل : وهذه رواية ضعيفة أنّ آدم عرف حواء في عرفة
, وعلى كل حال هذه روايات الله أعلم بصحتها , الأول أصحّ وأظهر لعلاقته بإبراهيم
فعرفة مُتعلّق باليوم يوم عرفة , وعرفات مُتعلّق بالمكان وهو الأرض .
وهذا
يدلّ على أنّ الوقوف يشمل عرفات كلّها كما قـال النبي صلى الله عليه وسلم : « وقفت هاهنا وعرفة كلّها موقف » [1]
قال الله : ) فَاذْكُرُوا اللَّهَ
عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ( والمشعر الحرام هو مزدلفة هنا وليس المسجد , وهذا
يُؤكدّ على أنّ المشعر الحرام كلّه موقف لدلالة المشعر الحرام , وذَكَرَ الله
تعالى فيه ليس الوقوف والمبَيت , وإنّما الذِّكر للإشارة إلى أنّ هذا الذكر ممّا
عطّله أهل الجاهلية كانوا يأتون إلى مزدلفة فلا يذكرون الله , فقال الله : ) فَاذْكُرُوا اللَّهَ
عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ( فتصريحٌ بذلك , وقد ورد عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنّه كان إذا صلّى الفجر ذكر الله حتى يُسفر النّهار قبل أن تطلُع
الشمس [2] .
ولهذا
قال : ) وَاذْكُرُوهُ كَمَا
هَدَاكُمْ ( كما هداكم لماذا ؟! كما هداكم للأصل الحجّ الذي كان عليه إبراهيم
، وأبطل ما أحدثه هؤلاء المشركون فجرّده لكم , والله إنّها نعمة عظيمة أنّ الله
تعالى بيّن لنا الحق وبيّن لنا الحج وجرّده ممّا أحدثه هؤلاء فيه , وبيّنه على ما
كان عليه إبراهيم ) وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ
الضَّالِّينَ ( .
قيل : أنّ المقصود هنا الإفاضة هي الإفاضة من عرفة إلى
مزدلفة .
قيل : ومن مزدلفة إلى منى . فدلّ ذلك على الإفاضتين
جميعاً .
وإنّما
قال هنا : ) أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ
أَفَاضَ النَّاسُ ( للدلالة على الإفاضة , ما المقصود بالنَّاس هنا ؟! قيل المقصود
بالناس الأمم السابقة ، ومنهم إبراهيم عليه السلام كأنّه قال أفيضوا من عرفات كما
أفاض إبراهيم , فهو تعريضٌ وإشعارٌ بما أحدثه هؤلاء المشركون , فهذا ما ذكره بعض
المفسّرين , وهذا الظاهر والله أعلم أن الآية تشمل الإفاضتين جميعاً , كأنّ الله
تعالى يقول أفيضوا كما كان عليه إبراهيم واتركوا مـا أحدثه هؤلاء المشركون ) وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ( ولهذا قـال : ) وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ( ما دلالتها ؟! كأنَّها إشارة إلى الخطأ الذي أحدثه هؤلاء المشركون
في الحجّ كأنّه إشعارٌ لهم إلى أن يستغفروا الله ويتوبوا إليه ممّا أحدثوه ويكونوا
على ما كان عليه إبراهيم والله تعالى أعلم , وفي هذه الآية دليل على مـاذا ؟! في
قوله : ) وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ( ؟! على مشروعية الاستغفار بعد العبادة لمظنّة النقص فيها .
ولأمرٍ
آخر ما هو ؟! طرد العجب وإنفاء العجب من النفس بأني أدّيت هذه العبادة وأكملُتها ,
ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يفخر بعد الحجّ بمظاهر تدلّ على فخره بأنّه حجّ وممّا
يتعلّق بذلك , وإن كان البعض في غير بلادنا الكثير يحتفون بالحاجّ ويضعون له
احتفال , لماذا ؟! لأنّ الحجّ عندهم صعب , من يأتي إلى الحجّ إلاّ بعد سنين من
العمر وبعد أن يجمع ما يجمع من الدراهم , فهذا المظهر ليس مشروعاً حقيقة من حيث أنّه فيه أمران :
أولاً : كأنّ فيه عجبٌ لهذا الشخص أنّه أدّى هذه العبادة .
ثانيا : وأيضاً إقامة هذا الاجتماع والاحتفال لم يرد عن
النبي صلى الله عليه وسلم , ثم قال الله عز وجل : ) إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ ( .
[1]
رواه مسلم رقم 1218 كتاب الحج ، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف .
[2]
رواه مسلم من حديث جابر "... حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب
والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى
أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر
جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس..." رقم 1218 كتاب الحج ، باب حجة النبي صلى الله
عليه وسلم .
[3]
سورة البقرة 199 .
[1]
رواه مسلم رقم 1218 كتاب الحج ، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف .
[2]
رواه مسلم من حديث جابر "... حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب
والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى
أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر
جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس..." رقم 1218 كتاب الحج ، باب حجة النبي صلى الله
عليه وسلم .
[3]
سورة البقرة 199 .
[1]
سورة البقرة 197 .
[2]
سورة التوبة 37 .
[3]
سورة البقرة 187 .
[4]
رواه البخاري رقم 1521 كتاب الحج ، باب فضل الحج المبرور ، ومسلم
رقم 1350 كتاب الحج ، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة .
[5]
السلسلة الصحيحة للألباني رقم 1264 .
[6]
سورة البقرة 198 .
[7]
رواه النسائي رقم 3044 كتاب مناسك الحج ، باب فرض الوقوف بعرفة .
[8]
روي عن عائشة في صحيح البخاري : " كانت قريش ومن دان دينها يقفون
بالمزدلفة ، وكانوا يسمون الحمس ، وكان سائر العرب يقفون بعرفات ، فلما جاء الإسلام
، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ، ثم يقف بها ، ثم يفيض منها ، فذلك
قوله تعالى : { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } " رقم 4520
كتاب التفسير ، باب { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق