ثمّ
ختم الله تعالى الآيات بقوله : ) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي
أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ( الإشارة هنا لأحكام ماذا ؟! انظروا ترتيب الآيات على وفق الحجّ أي
أيام التشريق , إشارة إلى أيام التشريق , قال الله : ) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي
أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ( وذكر الله تعالى أنّها أيام معدودات إشارة إلى أنّها قليلة ,
فينبغي أن تستثِمرُوها , ولاحظوا الحكمة الإلهية يا إخواني في أيام التشريق , أيام
التشريق ليس فيها عمل كثير , أليس كذلك ؟! ليس فيها بعد يوم العيد إلاّ الرمي ،
والمبِيت ، ثمّ طواف الوداع , يعني يوم العيد الذي هو يوم النَّحر ويوم الحجّ
الأكبر يقضي فيه المسلم أربع نسك : يقضي فيه رمي جمرة
العقبة فقط , وذبح نسكِهِ إن كان مُتمتِعاً أو قارناً , أمّا المُفرد
فليس عليه هدي , ثمّ حَلق رأسه أو تقصِيره ,
ثمّ طواف الحج والسعي , طواف الحجّ وهو الركن , وأيضا السعي هو ركن على الصحيح
للمُتمتّع ، والقارن ، والمُفرد . ويسقط سعي الحج هنا للمفرد والقارن إن سعيا في
طواف القدوم , أمّا المُتمتّع على الصحيح فعليه سعيان , مع أنّ شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله يقول أنّ عليه سعي واحد .
ولكن غالب ما عليه عُلماؤنا وجمهور العلماء بأنّ عليه سعيان :
سعي
العُمرة وسعي الحج , أما القارن فيسقط عليه سعي الحجّ إذا سعى في عمرته لأنّه قرن
بين الحجّ والعمرة , وكذلك المفرد إذا جاءَ بطواف القدوم في الحجّ , المفرد ليس
عليه طواف قدوم وليس عليه سعي , لكن لو جاء أفرد ثم جاء للبيت وطاف وسعى فهذا
السَّعي يُسقط عنه سعي الحجّ , أمّا الطواف لا يُسقطه عنه , هذا يوم العيد .
أمّا
أيام التشريق ليس فيها إلا عمل واحد وهو رمي الجمار , وفيها أيضاً المبيت
, لماذا لم يكن فيها أعمال ؟! لكي يتفرّغ المسلم لذكر الله عز وجل , ولهذا وجب ذكر
الله عند رمي الجمرات , فإذا أراد أن يرمي الجمرات يجب أن يقول الله أكبر , لأنّ
المقصود هنا ليس رمي الجمرة ولكنّ المقصود التكبير إقامة ذكر الله عز وجل , فقولك
: الله أكبر هنا إقامة لذكر الله عز وجل , ثم يُشرع بعد رمي الجمار الدعاء وهو
سنّة النبي صلى الله عليه وسلم .
ولماذا شُرع الدعاء بعد رمي الجمرة لماذا ؟! لأنّه عقِب رمي الجمار
في اليوم الحادي عشر، والثاني عشر ، والثالث عشر , أمّا في اليوم العاشر لا يُشرع
الوقوف لماذا ؟! لأنّ أعمال الحجّ في ذلك اليوم كثيرة , والحاجّ قد أتى من مُزدلفة
وهو مُرهَق فالنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَشرّع الدعاء بعد رمي جمرة العقبة يوم
العيد لأنّه وقتٌ مزدحم بالأعمال , فانظروا رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمّته
أراد أن يُخفِف عنهم , لكن أيام التشريق ليس عندهم عمل فشَرع الدُّعاء الطويل بعد
رمي الجمرة الأولى ، ورمي الجمرة الثانية ، ولم يَشرعه في الثالثة لأنّه انتهى هنا
وهو عازم في الذهاب فما أعظم حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في التيسير على أمّته
.
فأقول
إخواني الكرام هذه الحكمة يغفل عنها كثير من الناس وهي في هذه الأيام وهي إقامة
ذكر الله عز وجل وذكرُ الله يشمل : الصلاة والدعاء والذكر والتسبيح والتكبير
, ولهذا يُشرع التكبير هنا التكبير المطلق وقوله : ) فَاذْكُرُوا اللَّهَ ( يُشير هناك في التكبير المقيّد الذي يبتدئ بعد صلاة الفجر من يوم
عرفة , فذُكر في الآيات أُشير في الآيات إلى الذكر المُقيّد في قوله : ) فَاذْكُرُوا اللَّهَ
كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ( ممّا التمسه بعض العلماء , وأما قوله : ) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي
أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ( فهو الذكر المطلق والله تعالى أعلم .
قال
الله عز وجل : ) فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ ( وهذا إشارة إلى رحمة من رحمة الله وتخفيفه بالتعجّل , قال : ) وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ
لِمَنِ اتَّقَى
( هنا سؤال لماذا قال الله في التأخّر : ) وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ( مع أنّه قد أتى بكمال الحجّ ؟!. أمّا قوله : ) فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ( في الأولى يعني أنّ حجّه تامّ , لا تثريب عليه ولا يأتي في باله
أنا ما جلست , ربّما ينقص أجري ولا يتمّ , فقال الله : ) فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ( وفي هذه الآية دليل على ما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم : « من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه
» فكأنّ النبي صلى الله عليه وسلم انتزع هذا الأجر من هذه الآية بقوله : ) فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ( هو تعجّل , فقال الله : ) فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ( ، ) وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ( فهذه الجملة في الحالين دالّة على ما أخبر به النبيّ صلى الله
عليه وسلم من مغفرة الذنوب بتمام الحج « من حجّ فلم
يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه » هذا ممّا يلتمس من الآية ,
المعنى الآخر في قوله : ) وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ( معناه فمن تأخّر لليوم للثالث عشر , لأنّه من بقيَ اليوم الحادي
عشر والثاني عشر قبل غروب الشمس يوم الثاني عشر لابدّ أن يخرج ، قبل الغروب , فإن
بقي بعد الغروب يلزمه البقاء لليوم الثالث عشر - يوم واحد - .
) وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا
إِثْمَ عَلَيْهِ ( طيب إذا تأخر قال الله : ) فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ( لماذا لم يقل ومن تأخرّ فله أجر ؟! فمن تعجّل هو وإفادة تعجّل
نأخذ منها أفضلية التأخّر وهي أنّ التَّعجُل هنا الأصل فيه التأخّر , فقال الله
فمن أراد التعجّل , فلفظ التعجّل هنا ما قال فمن تقدّم ومن تأخّر , قال : ) فَمَنْ تَعَجَّلَ ( فالتعبير بالتعجّل بدل التقدّم نأخذ منه أفضلية التأخّر لأنّ فيه
زيادة أجر , لكن قوله : ) وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ( يُفيد أيضاً المعنى الثاني - أيّها الإخوة - أنّه ربّما بقي
الإنسان لحاجة من حوائج دنياه , ولاحظوا ربمّا الإنسان يتأخّر لا لأداء النُسك
ورمي الجمار وإنّما يتأخّر ليزداد قوتاً ويتزودّ ، أو يذهب للأسواق أو غير ذلك ,
وهذا هو الواقع في كثير من الناس أنّه يتأخّر لأجل هذا , فربمّا هذا يَشعر الإنسان
أنّه انشغل بالتجارة ، انشغل بالبيع والشراء ووقع في نفسه حرج هل نقص حجّه بهذا
الانشغال أم لا ؟!
لأنّ
كان من عمل الجاهلية إقامة الأسواق بعد الحجّ مباشرة , يعني بعد اليومين هم ما
عندهم يوم ثالث , فهذا التأخّر لم يكن من عملهم ، وإنَّما هو من تشريع الإسلام
تخفيفاً على هذه الأمّة لكي قد يكون الإنسان مُتعب بعد الحجّ , قد يكون الإنسان
ليس عنده زاد فيتزودّ , قد يكون الإنسان لم يؤدي نُسكَه أو بقي شيء عليه من النُسك
, انظروا حكمة التأخير هنا , قد يكون الإنسان يُريد الكمال يُريد التزّود من
الأعمال الصالحة فيتأخّر , فقوله : ) فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ( لمن تأخّر يُريد التجارة , أو تأخّر يُريد التزوّد من الدنيا ,
فهذا معنى لطيف في هذه الآية والله أعلم , قال الله عز وجل : ) لِمَنِ اتَّقَى ( أي لمن اتقّى الله عز وجل في هذه الآيات , واتقّى الله في بقائه
ولم يأتي محظوراً خشية أن يقع فيما كان عليه أهل الجاهلية من المضاهاة ، والتفاخر
بالآباء ، وغير ذلك .
قال
: ) وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( والله ما أعظم هذا الختام ! قال : ) وَاتَّقُوا اللَّهَ ( ربطاً ونظماً للتقوى بما ذكره في الأحكام كلّها , لكن قوله : ) وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( .
ختام عظيم بعد الحجّ
ما سرّ ربط آيات الحجّ بالتذكير بالحشر ؟! أنّ الحجّ
فيه حشرٌ للنّاس , وفيه تجرّد من المَخيط , تذكير بأحوال الآخرة , حال الآخرة
والقيامة فيه ظاهرة ولذلك من أحكامه ومن مقاصده التذكير بذلك اليـوم , أرأيتم سورة
الحجّ بماذا افتتحت ؟! سورة الحجّ اُفتتحت بقوله : ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ( كأنَّ الله تعالى يقول أنتم الآن تستعدوا لذلك اليوم الذي تُحشرون فيه
, فذكر الله تعالى فيها آية الحجّ لأنّها مُذكّرة بيوم الآخرة والحشر , أرأيتم هذا
السرّ العظيم في آيات الحجّ افتتاحها بذكر يوم القيامة , فهنا ذَكَر الله تعالى
قال : ) وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( أي تذّكروا بهذا الحجّ الذي كنتم فيه مقصداً عظيماً , وهو يوم
قدومكم على ربّكم متجرّدون من ملابسكم وممّا أنتم فيه , قادمون بأعمالكم وأنتم في
هذا الحجّ أتيتم مجرَّدين تتجرّدون من مخيطكم ، لتزدادوا من أعمالكم فتذّكروا ذلك
.
فهذا
المعنى العظيم - أيّها الإخوة - يجب أن يتذّكره الإنسان في حجّه .
قال البِقاعي كلاماً جميلاً :
ولماّ كان الحجّ حشر في الدنيا , والانصراف منه يُشبه انصراف أهل
الموقف بعد الحشر عن الدنيا فريقاً إلى الجنة ، وفريقاً إلى السعير ذكّرهم الله
تعالى بقوله : ) وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( .
قال الحرَّالي : وكليّة الحجّ ومناسكه
مُطَابقةً في الاعتبار لأمر يوم الحجّ , وموافقةً في خروج الحاجّ من وطنه متزوداً
، كخروج الميّت من الدنيا متزوّداً بزاد العمل , ووصوله إلى الميقات ، وإهلاله
بالحجّ متجرداً كانبعاثه من القبر مُتعرّياً , وتلبيته في حجِّه ، كتلبيته في حشره
) مُهْطِعِينَ
إِلَى الدَّاعِ ( وكذلك اعتباره موطناً إلى غاية الإفاضة والحلول
بحرم الله في الآخرة التي هي الجنّة ، والشُرب من ماء زمزم التي هي آية نُزُل الله
لأهل الجنّة على وجوه الاعتبار يُطالعها أهل الفهم واليقين , فلأجل ذلك أتمّ ختام
أحكام الحجّ بذكر الحشر .
تأمّلوا أيّها الإخوة أختم بهذه
المسألة المهمّة :
ورد
ذكر الذكر والتقّوى في الحج متكررا ًظاهراً , أولاً فيه تركيز على روح العبادة
ومقصدها الأول وتكراره لتستحضره النفوس في هذه العبادة , لئلّا يكون قصدها هو
المظهر أداء فقط رمي الجمرة ، الطواف ، السعي , ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم
قال : إنّما أُقيم الطواف والسعي ورمي الجمار والسعي
بين الصفا والمروة , قال : لإقامة ذكر الله
تعالى .
فيجب يا إخواني أن يستشعر المسلم في حجّه هذا المقصد العظيم في
الحجّ وهو إقامة ذكر الله فيُعظّم الله في قلبه ، ويذكر الله في لسانه ، وحاله ،
وقلبه ، وأعماله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق