تفسير الآيات 204 - 206
ابتدأَت هذه الآيات بقول الله سبحانه وتعالى : ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ( [1] . وقبل الشُّروع في الحديث عن الآية أُريد أن أتحدَّث حديثاً مجملاً عن سورة البقرة ، أرجو أن يكون لنا مزيدٌ من التأمُّل حول هذا الربط بين هذه الآية ، والسورة كلها .
السُّورة أيُّها الأحبة : ونحن في هذا المقطع ) وَمِنَ النَّاسِ ( ولعلكم لاحظتم أنه في المقطع السابق أيضاً جاء قول الله سبحانه وتعالى ) فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ( [2] .
فتكرَّر في هذه السورة عدد من المواضع يتبيَّن فيها حالُ الناس في عباداتهم، وفي قَبُولهم للأمر والنهي، وحالهم مع البعث .
وهذه السورة - وأرجو أن نلتفت إلى هذا - أُفتُتِحت بقول الله سبحانه وتعالى ) الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( [3] ، بدأت في ذكر أصناف الناس من المؤمن بالغيب ، والمتقي ، ثم ثنت بعد ذلك ولم تُطِل في أحوال الكافرين ، ثم أطالت وفصَّلت في أحوال المنافقين .
ثم سَارت الآيات أيضاً ، ومرَّ بعد آيات قليلة ضَربُ المثل للناس ، فكان الناس في هذا المثل على شِقين :
* منهم من يقول ماذا أراد الله بهذا مثلا .
* ومنهم من آمن بهذا المثل .
ثم بعد ذلك أيضاً سارت الآيات لتُبين لنا قصة آدم ، وموقف الملائكة ، ثم موقف الشيطان ، وكلها أحوال ..
ثم أيضاً جاءت قَصَص أخرى في بيان حال بني إسرائيل ، وجاءت قصة بني إسرائيل واستغرقت ما يَقرُب من بقية الجزء الأول إلى نهايته في بيان قَبُول بني إسرائيل ، وأحوالهم في قَبُولهم لأمر نبيهم ، ونهيِهِ ، وشرعِهِ ، وتردده ، ومعارضتهم له .
كل هذا في بيان تلك القصَّة التي كُرِرَّت - قصة موسى وبني إسرائيل ، ثم جاءت تلك السُّورة المُشرقة في الامتثال لأمر الله عز وجل وهي قصة أبونا إبراهيم ) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ( [4] كيف أنَّ إبراهيم وإسماعيل في طاعتهم لله عز وجل وهم القدوة .
ثم سارت بعد ذلك الآيات ، وفي ثناياها جاء الأمر ببداية الجزء الثاني من قوله سبحانه وتعالى ) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ( [5] . شغب ، واعتراض كثير من المنافقين على تولِّي القِبلة ثم قال الله سبحانه وتعالى في ثناياها ) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ( [6] . إذاً السُّورة كأنها تُعالج ، وتُبيِّن قضية في أحوال الناس ، في قَبُولهم ، وردِّهم ، وتلكُأِهم في الأمر والنهي ، وخاصةً أنَّ السورة سورة مدنية ، وجاء فيها كثير من التفريعات ، والتَّشريعات ، فجاءت بتلك المقدمات ، وبيان لأحوال الناس وأصنافهم
بل إنَّ السُّورة أيضاً تسير لِتُبيِّن أحوال الناس أيضاً في محبة الله ، يقول الله سبحانه وتعالى : ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ( [7] .
ثم ذكرت أيضاً صِنف من أصناف الناس وهم العلماء ، وأمرتهم بالبلاغ والبيان في هذا الأمر ، وحرمة كتم العلم . ثم بعد ذلك جاءت جملة من التفريعات .
والتّفريعات على نوعين :
* جاءت تفريعات عامة في النصف الثاني من الجزء الأول من ذكر القصاص ، وذكر الحج والصيام ، والوصية .
* ثم بعد ذلك ثنَّت في الجزء أو في أواخر الجزء الثاني على جملة من أحكام الأسرة من الإيلاء ، والطَّلاق ، وغيرها من الأحكام .
كأنَّ الآية تُرشد - ونحن سنبتدئ الآن في الآية التي معنا - يقول الله سبحانه وتعالى بعد أن ثنَّت - وإن كان كثير من المفسرين قال هي تعود لأقرب مذكور – وهو ) فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ( لكن الحقيقة أن تتبُع السورة ، بل حتى لو تأملنا في قصص الذين حاجُّوا فيمن أنكر البعث ، أو من تردد ، أو من كان قلبه مطمئن أيضاً وفي قصة المُتلكِأين في أرض الجهاد ، وكيف تميزوا على فريقين ، بل أختم ذلك أيضاً بحال الناس مع المال ، خاصة في السُّبعُ الأخير من السورة .
ما هو حال الناس مع المال ؟
* إما إنفاق وإما منفق لله عز وجل وإما متاجر مع الله ، وإما مرابي ، وإما تاجر في الدنيا آية الدين وكأن أيضاً بينها تقارب وكأنَّ بينهما تقارب إما إنفاق وتجارة مع الله .
* وإما ربا وحرب - وكلٌ في مقام المال ، أحوال الناس مع المال .
* وكذلك الأخير وهو حال آية الدين ، والمُداينة ، والبيع والشراء .
فإذاً لو تأملنا ونظرنا إلى ما في السورة من وحدة ، نجد هذه الوحدة الموضوعية التي يمكن قلَّ من يُلتفت إليها ، وبالذات في هذه السورة التي كثر فيها التشريعات ، والتفريعات .
إذاً أعود إلى ما يكون الحديث فيه وعد يقول الله سبحانه وتعالى ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ (
) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ( ولاحظوا أنَّ الإعجاب هنا وقد ذكر في الآية بيان أن هذا المُتحدث كلامه استُحسن ليس استغراباً فقط، بل يزيد عليه أنَّه استُحسن؛ ولذلك من شدة بلاغته كما قال سبحانه وتعالى ) وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ( [8] .
فمن شِدة الإعجاب به أنه استُحسن كلامه ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ( ، لكن هذا الإعجاب إنَّما هو في الحياة الدنيا وأمّا في الآخرة فعند الله تظهر الحقائق ، ويتجلَّى صدق الكلمات .
) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ( أي : أنه وهو يتكلم ، وبهذا المنطق العجيب من الإقناع ، ومن حلاوة اللسان ، وقوة البيان ، كأنَّه يَشعُر في نفسه ، لأن قلبه فيه ما فيه ، فيشهد الله على ما في قلبه ، يُشهد الله كأنَّه يُقسم للنَّاس ويقول لهم إني قلت هذا ، وأنا عندي من الغيرة على الدين ، ومن الحب للدين ، ومن الخير ، ومن ومن ...
فيقسم لهم بالله أنه صادق ؛ لأنه يَشعُر أنَّ منطوق اللسان غير منطوق القلب ، فيأتي بهذه الشهادة ليؤكِّد ما عنده أيضاً من البلاغة والقوة .
ولذلك يقول أهل العلم عند هذه الآية أنه ينبغي للمؤمن أن لا يغتر بالظَّواهر ، ولذا ذهب أهل العلم أنه ينبغي الاختبار، والنَّظر ، والتدقيق في أحوال الشُّهداء ، وأنه لا يُصَدَّق القول إلا إذا تُبِع بالعمل . ولذلك قال الله عز وجل إذا أردتم أن تعرفوا أنَّ هذا الذي يُعجبُ قوله في الحياة الدنيا انظروا في أفعاله .
قال الله عز وجل في صفته ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (
والصفة الثانية أنه ) وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ (
وإن كان بعض المفسرين قال ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ( أن المراد : أنه إذا تكلم في أمور الدنيا يُحسِنُها كل الإحسان ، وإذا تكلم في أمور الآخرة لا يعرفُ شيءٌ منها " ) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ( [9] . لكن هذا المعنى بعيد .
ولنبقى مع المعنى القريب : وهو أنه يُعجِب من يسمعه لقوله ، فيخدع النَّاس بحسن منطقه ، وغيرته ، وحبه للدِّين ، لكن - عياذاً بالله - هو إذا قال الله عز وجل في
صفته الثالثة : ) وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ( اللَّدد بمعنى : ليست الخصومة العادية ، إنما شدة الخصومة - شديد الخصومة - هذه الصِّفة من صفاته ، يعني فإذا خاصم كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم . فجر [10] .
فهذه أيضاً فيه خصومة ؛ لأنه لا يريد لأحد أن يغلبه ) وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (
الصفة الرابعة : التي ينبغي أن نضبط بها ، وينبغي أن يكون أهل الإيمان عندهم حِسّ ، وبصيرة ونظر ثاقب ، وفِراسة أن ينظروا مع قوله في فعله ) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ ( [11] .
( تَوَلَّى ) من ظاهر الآية أنَّ معناه :
* انصَرف أو أدبر ، أدبر انتهى القول ، فأدبر إلى العَمل
* وقيل كما رَجَّحه بعض المفسرين : وقد يكون له شيءٌ من القوة .
كما رجَّحَهُ محمد عبده في المَنـار في تفسيره ، ونقله عنه رشيد رضا في المنار ، ونقله أيضاً عنه القاسمي – في محاسن التأويل -
) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ ( أنَّ الولاية هنا بمعنى السُّلطة ، أنه إذا تولى الوِلاية ليست التَّولي إنما الذَّهاب ، إنما هي إذا تولى وأمر ونهى وصارت له السُّلطة والأمر والنَّهي - عياذاً بالله - ظَهر ما يخالف ذاك القول الجميل ، والغيرة ، والمنطق الذي أُعجب به الناس .
نعُود للمعنى الأول ، وهو الأشهر ، والأكثر عند المفسرين :
) وَإِذَا تَوَلَّى ( أدبر . وإذا تولى سعى ، العجيب " سعى " وليس " ذهب " . والسَّعي معناه : الإسراع الحثيث - عياذاً بالله - ) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى ( أسرع في الفساد ، ليس مسيراً عادياً ، يعني مع هذا المنطق الجميل لكنّه لَدِدٌ في خُصُومته .
) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ( إذاً أفعالُه تُخالف أقواله ، بل تُخالِفها في مقابلةٍ عجيبة بين قول في غاية الحُسن ويأخُذ بالألباب ، وبين فِعلٍ فيه من الانحراف بل والسَّعي للانحراف والإفساد .
) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ( .
قيل في سبب نزولها أنها نزلت في الأخنس الثقفي أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأظهر الإسلام ثم لما خرج من عند النبي خرج وكان يخفي في قلبه ما لا يظهره ، وأحرق بعض الزُّروع . [12] لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ( والسَّير على غير منهج الله فساد كائِناً ما كان هذا المسير . لأنَّ أهل النفاق ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ( [13] كما أخـبر الله عن حـال النَّاس في أول السُّورة ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ( ولذلك هم يتصَوَّرون أنهم يصلحون ، فقال الله ) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ( وهو بفساده سواء كان تولَّى وكانت له من القُوَّة ما كانت .
وبالمناسبة بعض المفسرين - أيضاً كما قلت لكم في مسألة التَّولي – قـال يظهر أيضاً ممَّا يُرجِّح أنَّ التولي بمعنى الولايـة - طبعاً صغرت هذه الولاية أو كبرت - قد تكون ولاية صغيرة أو متوسطة ، أو كبيرة ؛ لأنه إذا تولّى ، دلالة الولاية قال ) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ( [14] فكونه عزيز ، هذا عزيز فيه عزة .
فهذا مُرجِّح من خلال الآية على من ذهب من المفسرين للقول الثاني .
ونعود للقول الأول : وهو أنَّه إذا تولى أدبر ، وأصبح لا يُرى خالف فعلُهُ قوله ) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ( ، ) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ( [15] بهذا الانحراف ، فهو بانحرافه هذا أظهَرَ الفساد ، بل بدعوته لهذا ، بل ليس مسيره العادي إنَّما بِسَعيه ) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ (
والمراد بالحرث : الزرع . والنسل : هو ما نتج من البهائم . والبهائم أيضاً تكون على الزُّروع .
) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (
أيضـاً من الصفة الأخيرة له ) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ ( وهذا يدُّلُكُم على لَدد خصومته ، وعلى بعده عن قوله ) وَإِذَا قِيلَ ( مع أن المسألة قول ) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ ( والمراد هنا بتقوى الله أيّ سِر على منهج الله ؛ لأنّه الآن بفساده هذا وسعيه بالفساد ، انحرف عن منهج الله عز وجل وتصوَّر أن ما عنده من أفكار ، وما عنده من أُطروحات ، وما عنده من حلول أحسن وأفضل ممن جاء من عند الله عز وجل فيُقال له اتق الله ، عُد إلى منهج الله ) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ( ، قال الله عز وجل للكافرين ) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ ( لكن ) وَشِقَاقٍ ( [16] وهنا أخذته العزة ، ليست العزة المحمودة ) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ ( [17] إنَّما أخذته العزة مُتلبِّسة بالإثم .
وبئست العزة ، تعزّزَ أن مثله ، كيف يُؤمن ! . وخاصَّةً إذ كانت متولِّي ، أوقد يكون أيضاً معناها - لأنَّ منطقه جميل وعنده من الفصاحة ، والبيان . وعنده من العلم في ظاهر الحياة الدنيا ، ما يجعل منطقه غير منطق العامة ، أو منطق الذين يأمرونه ، فإذا قيل له – تصوَّر أن ما عنده مما أتقنه من المنطوق ، ومن الكلام ، ومن السفسطة – أن هؤلاء الذين يقولون له اتق الله أقل منه لا يصلح أن يأمرونه وينهوه ، فازداد بغياً على بغيا – ) أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ ( وليست أي عزة إنما العزّة الآثمة ) أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ( .
قال سبحانه وتعالى ) فَحَسْبُهُ ( يكفيه ) جَهَنَّمُ ( قال الله : بئس المصير ؟ لا بل قال ) وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ( – نسأل الله العافية - جهنم ليست مهاد ولا محل ، لكن احتقاراً له وسخرية به ؛ لأنَّه جاء في مقام العزة فجُعِل جزاؤه جهنم ، والمهاد له من هذه النار ، هذا حال من الناس ، وأرجو أن نلتفت إلى هذا الحال وألا نغتر بظواهر الناس كائِناَ من كان ، حتى لو كان ظاهرهم من الصَّالحين ، فنُفتِّش في أحوالهم ، وصدقهم في أفعالهم ، القول يُصدِّقه الفعل .
قال سبحانه وتعالى بعد ذلك : ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ( [18] انظروا إلى المفارقة ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ( وهنا ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ( .
جاء في التفسير عند الطبري مسنداً عن علي رضي الله عنه - وهذا من فقه علي رضي الله عنه - قال : " لما قرأ هاتين الآيتين قال عليٌ رضي الله عنه : ( اقتتلا ورب الكعبة ) [19]
من هم المقتتلين ؟
هذا الذي يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويسعى في الفساد ، والذِّي يشري نفسه ابتغاء مرضات الله . فرق كبير ولذلك الآية كأنها ترسم أردى المناهج ، وأعلى المناهج كما قلت لكم في قصة ابتلاء إبراهيم نموذج ، وقدوة .
) وَمِنَ النَّاسِ ( يعني ليس كل الناس على هذه الحال السَّيئة الرديئة ، لا هناك أُناس في غاية من البذل لدين الله عز وجل ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ( " ويَشري " بمعنى يبيع وهي من الأضداد ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ( شراء النَّفس باعها لله عز وجل ، ولذلك ) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ( [20] باعوه ، فالبيع والشراء بمعنى الضد، أمام ووراء من الأضداد .
) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ ( باع نفسه لله عز وجل ابتغاء مرضات الله ، أفلح ) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ ( [21]
ينبغي أن يكون كل ما فينا لله ، الصلاة ، والنُّسك ، وأيضاً المحيا والممات - نبيع هذه النفس لله عز وجل ، وربح البيع
ولذلك يقال في قصتها أنَّها جاءت في صهيب الرومي ( رضي الله عنه ) أنه لمَّا قدم إلى مكة لم يكن عنده مال ، وتاَجَر وأصبح عنده مالٌ كثير فأراد أن يهاجِر فتبِعوه وكان أيضاً رامياً ، فنزل من على دابته ومعه النَّبل ، وقال تعلمون أني رامي ومعي السِّيف وسأرمي بهذا الرمي عليكم وأنتم تتبعوني وأُقاتل بهذا السيف ثم قال ( رضي الله عنه ) ألا أدلكم على خير من هذا تأخذون مالي وتدعوني ؟ قالوا : نعم - كُلّ مَالك يا صهيب !! - فتنازل عن المال كله لأجل أن يدعوه ويتركوه يهـاجر - فهاجر ولما لقيه عمر على أبواب المدينة قـال : ربح البيع ، ربح البيع ، ربح البيع ، ثم قـابل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ربح البيع يا صهيب . يقال أن هذه الآية نزلت فيه لكن العبرة كما قلنا بعموم السبب لا بخصوصه .
) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ( [22] .
وبالمناسبة في قوله تعالى : ) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ( ذكر بعض المفسرين قصة طريفة أذكرها في هذا المقام أن هارون الرشيد كان يتردد عليه أحد النصارى ، فلم يقابله ومكث طويلا لم يقابله ، أيام ، بل قيل سنة ، وهارون لا يعلم به ، ولما صـادف هارون وراءه جاء يجري إلى هارون ، وقال له : يـا أمير المؤمنين - مع أنه ليس مسلماً – قال : يا أمير المؤمنين اتق الله ، فما كان من هارون - وعرف أن عنده من الحنث والغضب - فما كان منه إلا أن نزل وبدأ يستمع إليه ، وقال إني لمَّا سمعت قوله اتق الله تذكرت قول الله عز وجل : ) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ( . فخشيتُ أن تنطبق عليَّ .
فمع أنه أمير المؤمنين خاف ، وهذا الذي يقوله من عامة الناس ، بل إنَّه من غير المسلمين ومع ذلك توقف عند هذا الأمر وتذكر هذه الآية . فينبغي لنـا إذا قيل لنا اتـق الله عز وجل أن نتذكر مثل هذه الصفة وأن نرعوي ، وقد قِيلت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ( [23] .
[1]
سورة البقرة 204 .
[2]
سورة البقرة 200 .
[3]
سورة البقرة 1 - 3 .
[4]
سورة البقرة 124 .
[5]
سورة البقرة 142 .
[6]
سورة البقرة 148 .
[7]
سورة البقرة 165 .
[8]
سورة المنافقون 4 .
[9]
سورة الروم 7 .
[10]
رواه البخاري رقم (34) في كتاب الإيمان ، باب علامة المنافق ، ومسلم
رقم (58) في كتاب الإيمان ، باب بيان خصال المنافق .
[11]
سورة البقرة 206 .
[12]
تفسير الطبري .
[13]
سورة البقرة 11 .
[14] سورة البقرة 206 .
[15]
سورة الروم 41 .
[16]
سورة ص 2 .
[17]
سورة المنافقون 8 .
[18]
سورة البقرة 207 .
[19]
تفسير الطبري .
[20]
سورة يوسف 20 .
[21]
سورة الأنعام 162 .
[22]
تفسير ابن كثير .
[23]
سورة الأحزاب 1 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق