تفسير الآيات من 207 - 210



تفسير الآيات من 207 - 210

بسم الله الرحمن الرحيم

) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) ( .


إذاً يقول الله سبحانه وتعالى : ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ( وهنا رؤوف بالعباد خِتامُها : أنَّ الذي باع نفسه لله عز وجل ، الله رؤوف به وبأمثاله الله عز وجل يعني وهُو يأمرنا بالأوامر ، وينهانا عن النَّواهي ، في النهي انتهوا عن كل شيء ، وفي الأمر ائتمروا بما تستطيعون ، فلم يكلفنا الله عز وجل شططاً .

ولذلك قال الله عز وجل مع أن هذا باع نفسه لله ، ولكن الله سبحانه وتعالى رؤوف بالعباد ، ويجزي على هذا البيع والشراء الشيء الكثير .

ثم قال الله عز وجل بعد أن بيّن صنفين من الناس : صنف الأردى . وصنف الأحسن .

قال : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ( [1]

) ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ( ما العلاقة هنا ، ) ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ ( أي في الإسلام ، خذوا الإسلام كله بكل شرائِعه ، لا تأخذوا بعضاً وتتركوا بعضا كما فعل بني إسرائِيل .

ولذلك سيأتي أيضاً تفريعات ، وجزئيات ، وأُمور دقيقة في مسائل الصيام ، ومسائل الحج ، ومسائل النكاح ، ومسائل الطلاق .

فقال الله عز وجل ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ( ، يعني انحراف الذي انحرف من ماذا ؟ لأنَّه ترك هذا السِّلم ، وفوز هذا الذي فاز ؟ لأنه دخل في السِّلم كافة ، فقال الله عنه : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا (

قال الله عز وجل بعد هاتين الآيتين قال ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً (

قلت كافة يعني كأنَّ الآية تشير إلى - وهي مقدمة - تشير إلى أنَّه ينبغي لكم :

أن تدخلوا في شرائع الإسلام كُلها ، ولا تأخذوا ببعضها .

وقيل : ) ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ( قيل : أنها نزلت في أهل الإسلام ادخلوا جميعاً في التطاوع ، والإسلام .

وقيل : أنَّها نزلت في بعض من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ، وعبد الله بن سلام كان آمن ولكن بقي في نفسه بقية من تعظيمه يوم السبت ، وفي كراهيته لِلحم الإبل في إحلاله فقيل : ) ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ( يعني ادخلوا في كل شرائع الإسلام .

وقيل : وهو أضعف الأقوال روي عن قتادة وأمّا كثير من المفسرين السلف ، فلم يُروى عنهم هذا القول ، روي عن قتادة القول مثل قول الجمهور ادخلوا في السِّلم كافة في تشريعاته كلها ، وروي عنه أن المراد به المُوادعة والمسالمة ، ادخلوا في السِّلم يعني الموادعة .

والعجيب أنَّ كثير من الناس يأخذ هذا المعنى الضعيف أو الأقل شهرة ، ويحسِب أنَّ الآية تقصده ، والآية بالأساس أنَّها تقصد الإسلام ، ولا تقصد الموادعة والسلام وإن كانت آيات أُخرى .

بل إنَّ ابن جرير الطبري ردَّ هذا القول الذي يقول أن السِّلم هنا بمعنى الموادعة ، وعدم الحرب لا ، قال : لأنَّ الإسلام لم يَأمر به ابتداءً [2] .

يُمكن إذا جنحوا للسِّلم فاجنح لها وطبعاً والسّلم بالكسر والفتح .

قيل : هما لغتان مختلفتان .

وقيل : بالكسر هي الإسلام .

وبالفتح : الموادعة .

لكن كما قلت لكم إن ابن جرير الطبري رد هذا القـول أنها الموادعة ، وقـال أن الله سبحانه وتعالى في مسألة قال الله ) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ( [3] فالله سبحانه نهى عن الموادعة ، وطلب السِّلم إما إذا هم طلبوا وإن جنحوا للسِّلم إذا طلب منهم فلا بأس بذلك ، وإن كانت تختلف بأحوال المسلمين هذا ليس مقام الحديث عنه ، لكن أقصد في هذه في الآية فينصرف المعنى الأشهر والأظهر والذي عليه جماهير المفسرين بأنَّ المراد به الإسلام كله .

) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ( إذاً ما الذي يجعلنا نتقاعس في دخولنا ؟!.

) وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ( الشَّيطان يخطو بنا خطوات ، والعجيب أن كثير من الناس يتَّبعون الشَّيطان مع أنَّ الله في أكثر من آية أكَّد أنه عدوٌ ، وليست العداوة مخفية بل بيِّنة خطوات الشيطان ، الشيطان يخطو بالناس كلهم ، يأتي للناس من باب الكُفُر كلهم ويحرص أن يكون في الكُفُر ، فإن أسلموا أو آمنوا جاءهم من باب الشِّرك ، فإن كانوا من أهل التوحيد ما استطاع ، خطا لهم خطوة الكبائر ، فإن كانوا من أهل قوة الإيمان والصلاح خطا لهم خطوة من باب الصَّغائر ، فإن كانوا أيضاً عندهم من الصَّلابة ما تمنعهم من الوقوع في ذلك ، وقبل ذلك قبل الدُّخول في الكبائر يقول ابن القيم ( رحمه الله ) ( إن لم يستطع عليهم في باب الشرك إن كانوا أهل توحيد جاءهم من باب البدعة حتى يعرفهم ، وإن لم يستطع عليهم من باب البدعة جاءهم من باب الكبائر ، فإن لم يستطع من باب الكبائر جاءهم من باب الصغائر واحتقار الذنوب حتى تُهلِك العبد ، فإن ما استطاع من باب الصغائر جاءهم من باب الإشغال بالفاضل عن المفضول ، والإشغال بالسُّنة عن الواجب ) [4] .

إذاً لا يمكن للشيطان أن يأتي للعابد من باب العبادة ، ويأتي الزاهد من باب الزهد ، ويأتي التَّاجر ، والعالم ، كل واحد يأتيه بما يناسبه ولذلك قال ) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ( [5] فله مداخل ، وله خطوات ، ولنحذر من خطوات الشيطان .

إذاً يقول الله سبحانه وتعالى : ) وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ( انظروا ختام الآيـة بالتأكيد ) إِنَّهُ لَكُمْ ( وليس لغيركم " لَكُمْ " مؤكدات ) إِنَّهُ لَكُمْ ( ثم ) عَدُوٌّ ( ، والعداوة بيِّنة ) أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ( [6] بمعنى أنّ الله سبحانه وتعالى يعيب ، وتأتي الآيات تؤكد هذا المعنى ) إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( .

ثم قال سبحانه وتعالى بعد أن أمر بالدخول في السلم والإسلام كافة بكل تفريعات الإسلام بكل أصوله وفروعه ونهى عن خطوات الشيطان قال : ) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ( [7] وهُنا الزلل ليس الخطأ العادي ، ولذلك لاحظوا أنَّ الختام في الآية ليس " غفور رحيم " ولا " توَّاب حكيم "

ما هو الختام ؟ ويمكن بعض الأخوان الحفاظ يلبس عليهم ، وقد يخلِطُون في هذه الآية ) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ( قد يُخطأ ويقول " فإن الله غفور رحيم " ، " تواب رحيم " ولكن الختام ) أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ( لأن أولاً لاحظوا أنَّ الخطأ هنا الزلل - في لغة العرب -

الزَّلة : هي الخطأ الفاحش ، ومشكلة هذا الخطأ الفاحش إن كان جاء بعد مجيء البيِّنات ، فيُصبح سوء على سوء ، من وجهين :

أولاً : زلَّة وخطأ ليس يسيراً .

ثانياً : ثم بعد أن جَاءت البينات الواضحات ، وليست الغامضات .

) فَإِنْ زَلَلْتُمْ ( ولذلك الإنسان يحذر ) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ( . ثم قُدِّمت بقوله ) فَاعْلَمُوا ( فيه تخويف ) أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( عزيز ، اتضحت .

لكن حكيم ؟ وجدتُ قليل من المفسرين من أشار إلى سِرّ الحكيم قالوا كلاماً عاماً - لكن نريد أن نتأمل في ذلك . عزيز واضحة الختام بعزيز ، المعتاد أن آيات الذم تُختم بالغفران ، والرحمة ، وهنا ختمت بالعِزَّة !

لأنَّ العزّة فيها قوة وتهديد بالانتقام ، فما دلالة هذا ؟ لا عزيز على الأصنام ، حكيم بما يستحق العقوبة لكن له معنى ثاني أيضاً ، لا هنا حكيم أيضاً في هذه الصفات وخاصة كما قلت ) ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ( أوامر كثيرة، ونواهي كثيرة .

أوامر في الأصول ، في الفروع ، في الدَّقائق ، في الطلاق ، في النَّكاح ، في كل شيء ، أيّ فيما حكم وأمر به ، يعني أنتم تتملَّصون بعض الأحيان من الأمر ، لأنكم تستثقلون هذا الأمر ، لكن إذا علمتَ أنَّ الذِّي فرض عليك هذا الحُكم ، وأمرك بالدُّخول في صغيره ، وكبيره حكيم . فإذاً هو عزيزٌ حكيم - وأرجو أن نلتفت إلى ذلك . ) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( .

ثم قال سبحانه وتعالى : ) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ( [8] .

) هَلْ يَنْظُرُونَ ( هل ينتظرون يوم القيامة ، أن يأتيهم الله في ظُلل من الغمام ؟ . هل ينظرون إلى هذا المصير ؟ وينتظرون هذا المصير ؟

) وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ( فكأنّه أيضاً تهديد بذلك اليوم .

إذاً يقول الله سبحانه وتعالى ) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ( بمعنى هل ينتظرون ذاك اليوم الذي لا ينفع فيه الندم ، ولا ينفع فيه العَود ) إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ ( ونحن نؤمن - في هذه الآية - بِصِفة الله عز وجل الإتيان على الوجه اللائق بجلاله ، لا ما يقوله بعض المنحرفين من المعتزلة ، أو حتى من الأشاعرة أنّه بمعنى إتيان الأمر !

إنما يأتي الله عز وجل – مجيئاً يليقُ بجلاله وعظمته سبحانه - ) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ ( والله عز وجل يأتي على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى . ففي هذه الآية إثبات صفة المجيء ، والإتيان ) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ( .

 



[1] سورة البقرة 208 .
[2] تفسير الطبري .
[3] سورة محمد 35 .
[4] بدائع الفوائد .
[5] سورة الأعراف 17 .
[6] سورة الكهف 50 .
[7] سورة البقرة 209 .
[8] سورة البقرة 210 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق